وَذَلِكَ عَامٌّ كُلُّهُ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ كُلُّ عَامٍّ يَحْتَمِلُ إرَادَةَ الْخُصُوصِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ فَذَهَبَ الْيَقِينُ، وَلَنَا أَنَّ الصِّيغَةَ مَتَى وُضِعَتْ لِمَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَاجِبًا بِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِرَادَةُ الْبَاطِنِ لَا تَصْلُحُ دَلِيلًا لِأَنَّا لَمْ نُكَلَّفْ دَلِيلًا دَرْكُ الْغَيْبِ فَلَا يَبْقَى لَهُ عِبْرَةً أَصْلًا
ــ
[كشف الأسرار]
أَرَادُوا غَيْرَ مُوسَى فَلَمْ يَلْزَمْ دُخُولُ مُوسَى تَحْتَ اسْمِ الْبَشَرِ.
وَأَمَّا الِاسْتِحْلَالُ بِالْعُمُومِ فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ أَعْتَقْت عَبِيدِي أَوْ إمَائِي وَمَاتَ عَقِيبَهُ جَازَ لِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ أَيِّ عَبِيدِهِ شَاءَ أَوْ يَتَزَوَّجَ بِأَيِّ جَوَارِيهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ الْوَرَثَةِ وَإِذَا قَالَ الْعَبِيدُ الَّذِينَ هُمْ فِي يَدِي مِلْكُ فُلَانٍ كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا مَحْكُومًا بِهِ فِي الْجَمِيعِ وَبِنَاءُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْعُمُومَاتِ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ لَا يَنْحَصِرُ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْفِقْ عَلَى عَبْدِي غَانِمٍ أَوْ عَلَى زَوْجَتِي زَيْنَبَ وَلَهُ عَبْدَانِ اسْمُهُمَا غَانِمٌ وَزَوْجَتَانِ اسْمُهُمَا زَيْنَبُ يَجِبُ الْمُرَاجَعَةُ وَالِاسْتِفْهَامُ لِأَنَّهُ أَتَى بِاسْمٍ مُشْتَرَكٍ غَيْرِ مَفْهُومٍ فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الْعُمُومِ مُشْتَرَكًا فِيمَا وَرَاءَ أَقَلِّ الْجَمْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ التَّوَقُّفُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أَعْطَى ثَلَاثَةً مِمَّنْ دَخَلَ الدَّارَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاجَعَ فِي الْبَاقِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ كُلِّهِمْ فِي اللُّغَاتِ كُلِّهَا (فَإِنْ قِيلَ) إنْ سَلَّمْنَا لَكُمْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَإِنَّمَا نُسَلِّمُ بِسَبَبِ الْقَرَائِنِ فَإِذَا عَرِيَ عَنْ الْقَرَائِنِ فَلَا نُسَلِّمُ وَفِي قَوْلِهِ أَنْفِقْ عَلَى عَبِيدِي وَجَوَّارِيَّ فِي غَيْبَتِي إنَّمَا كَانَ مُطِيعًا بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْجَمِيعِ بِقَرِينَةِ الْحَاجَةِ إلَى النَّفَقَةِ وَفِي قَوْلِهِ أَعْطِ مَنْ دَخَلَ دَارِي لِقَرِينَةِ إكْرَامِ الزَّائِرِ (قُلْنَا) فَلْنُقَدِّرْ أَضْدَادَهَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَا تُنْفِقْ عَلَى عَبِيدِي وَزَوْجَاتِي كَانَ عَاصِيًا بِالْإِنْفَاقِ مُطِيعًا بِالتَّصْنِيعِ وَلَوْ قَالَ اضْرِبْهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى ثَلَاثَةٍ بَلْ إذَا ضَرَبَهُمْ جَمِيعًا عُدَّ مُطِيعًا وَلَوْ قَالَ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَخُذْ مِنْهُ شَيْئًا بَقِيَ الْعُمُومُ.
قَوْلُهُ (وَذَلِكَ عَامٌّ كُلُّهُ) إشَارَةٌ إلَى مَا احْتَجَّ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ الْآيَاتِ فَعُمُومُ الْأُولَيَيْنِ ظَاهِرٌ وَكَذَا عُمُومُ الثَّالِثَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: ٢٣] إذْ مَعْنَاهُ وَحَرُمَ عَلَيْكُمْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَالْجَمْعُ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلَّى بِاللَّامِ فَيَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ نِكَاحًا وَوَطْئًا قَوْلُهُ (ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ) إلَى آخِرِهِ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ الْعُمُومِ فِي مُوجِبِ الْعَامِّ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ مُوجِبُهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ وَعِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ مُوجِبُهُ قَطْعِيٌّ كَمُوجِبِ الْخَاصِّ وَتَابَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ وَجَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ ابْتِدَاءً فَعِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ الْعُمُومُ فِيهِ وَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَعِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي عَلَى الْعَكْسِ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ بِأَنَّ الْيَقِينَ وَالْقَطْعَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الِاحْتِمَالِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الِاحْتِمَالِ ثُمَّ احْتِمَالُ إرَادَةِ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ قَائِمٌ لِأَنَّهُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى احْتِمَالِ الْخُصُوصِ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النساء: ٧٥ - ١٧٠] .
وَإِذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ ثَابِتًا فِي نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ مُوجِبِهِ قَطْعًا مَعَ الِاحْتِمَالِ كَالثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَاصِّ فَإِنَّ احْتِمَالَ إرَادَةِ الْمَجَازِ وَالنَّسْخِ قَائِمٌ فِيهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَثْبُتُ مُوجَبُهُ قَطْعًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَجَازِ ثَابِتٌ فِي الْعُمُومِ أَيْضًا مَعَ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ فَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِيهِ أَكْثَرَ وَأَقْوَى فَيَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي رَفْعِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ لَا يُخْرِجُ الْعَامَّ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْعُمُومَ بَاقٍ بَعْدَ التَّخْصِيصِ إلَى الثَّلَاثِ لِمَا نَذْكُرُ أَنَّ الْعَامَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute