وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْأَقْرَاءِ أَنَّهَا الْحَيْضُ؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ لِلْحَيْضِ حَقِيقَةٌ وَلِلطُّهْرِ مَجَازٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْجَمْعِ وَهُوَ مَعْنَى حَقِيقَةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لُغَةً وَذَلِكَ صِفَةُ الدَّمِ الْمُجْتَمِعِ فَأَمَّا الطُّهْرُ فَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ بِالْمُجَاوِرَةِ مَجَازًا وَلِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْءِ الِانْتِقَالُ يُقَالُ قَرَأَ النَّجْمُ إذَا انْتَقَلَ وَالِانْتِقَالُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ فَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْلَى
ــ
[كشف الأسرار]
حَالَ التَّسَاوِي لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَاضِعَ إنَّمَا وَضَعَ اللَّفْظَ لِلْمَعْنَى لِيَكْتَفِيَ بِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إذَا سَمِعْتُمْ أَنِّي تَكَلَّمْت بِهَذَا اللَّفْظِ فَاعْلَمُوا أَنِّي عَنَيْت بِهِ هَذَا الْمَعْنَى فَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِ وَجَبَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَوَجَبَ حَمْلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّا نَجِدُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مُبَادَرَةَ الذِّهْنِ إلَى فَهْمِ الْحَقِيقَةِ أَقْوَى مِنْ مُبَادَرَتِهِ إلَى فَهْمِ الْمَجَازِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا.
وَقَوْلُهُمْ هُمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ سَوَاءٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْتِعْمَالِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لَا يُفْهَمُ إلَّا بِقَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهِ فَأَنَّى يَتَسَاوَيَانِ وَإِذَا لَمْ يَتَسَاوَيَا كَانَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ أَوْلَى بِاللَّفْظِ مِنْ الْمَعْنَى الْعَارِضِ عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلٍ يَصْرِفُهُ إلَيْهِ.
قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ نَظِيرُ هَذَا الْأَصْلِ قَوْلُنَا فِي الْأَقْرَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّصِّ إنَّهَا الْحَيْضُ لَا الْأَطْهَارُ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَ الْأَقْرَاءِ دُونَ الْقُرُوءِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْقُرُوءِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ جَمْعُ الْقِلَّةِ.
قَوْلُهُ (؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ لِلْحَيْضَةِ حَقِيقَةٌ وَلِلطُّهْرِ مَجَازٌ) اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْقُرْءَ اُسْتُعْمِلَ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ لُغَةً وَشَرْعًا وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» يَعْنِي أَيَّامَ حَيْضِك وَقَالَ «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً» يَعْنِي الطُّهْرَ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَا رُبَّ مَوْلًى حَاسِدٍ مُبَاغَضٍ ... عَلَى ذِي ضِغْنٍ وَضَبٍّ فَارِضٍ
لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ
وَقَال َ الْأَعْشَى:
أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا غَرِيمَ غِرَائِكَا
مُورِثَةً مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
وَأَرَادَ بِهِ الطُّهْرَ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الَّذِي يَضِيعُ فِي زَمَانِ غَيْبَةِ الزَّوْجِ وَأَمَّا الْحَيْضُ فَضَائِعٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَلَكِنَّ الِاشْتِبَاهَ وَالْخِلَافَ فِي أَنَّ الِاسْتِعْمَالَيْنِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَحَدُهُمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالْآخَرُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَبِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الِاسْتِعْمَالِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مُطْلَقِ الِاسْتِعْمَالِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَالِاسْتِعْمَالُ فِي الْمَجَازِ لَا يَكُونُ بِدُونِ قَرِينَةٍ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي نَظَائِرِ الْمُشْتَرَكِ وَبِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَيْضِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَفِي الطُّهْرِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَأَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ هَهُنَا بِقَوْلِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَذَا يَعْنِي هَذَا الْوَجْهَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ حَقِيقَةً فِي الْحَيْضِ مَجَازًا فِي الطُّهْرِ وَإِنْ كَانَ الِاشْتِرَاكُ هُوَ الْمُخْتَارُ فِيهِ عِنْدِي فَبِهَذَا عُرِفَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَا لَا يُنَاقِضُ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ ذَكَرَ لِلِاشْتِقَاقِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَصْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ يُقَالُ قَرَأْت الشَّيْءَ قُرْآنًا أَيْ جَمَعْته وَضَمَمْت بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ وَيُقَالُ مَا قَرَأَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ سَلًا قَطُّ وَمَا قَرَأَتْ جَنِينًا أَيْ لَمْ تَضُمَّ رَحِمَهَا عَلَى وَلَدٍ كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
هِجَانُ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا
وَحَقِيقَةُ الِاجْتِمَاعِ فِي الدَّمِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمٌ لِدَمٍ مُجْتَمِعٍ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ نَفْسَ الدَّمِ لَا يَكُونُ حَيْضًا حَتَّى تَدُومَ فَأَمَّا الطُّهْرُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ مُجْتَمِعٍ وَلَكِنَّهُ حَالَ اجْتِمَاعِ دَمِ الْحَيْضِ فِي الرَّحِمِ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي زَمَانِ الطُّهْرِ ثُمَّ يَدِرُّ فَكَانَ الِاسْمُ لِلدَّمِ الْمُجْتَمِعِ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَلِزَمَانِ اجْتِمَاعِ الدَّمِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوِرَةِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَيْضِ أَوْلَى وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْقُرْءِ وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْءَ