للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الدَّعْوَى فِي رَجُلٍ لَهُ أَمَةٌ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقَالَ الْمَوْلَى أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ

ــ

[كشف الأسرار]

الْوَطْءِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ الِاتِّحَادِ بَيْنَ الذَّاتَيْنِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ جِمَاعًا وَفِي الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى ذَلِكَ الضَّمِّ، أَوْ لِأَنَّ فِيهِ ضَمًّا حُكْمِيًّا فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْلَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.

وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ حَمْلَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: ٢٢] عَلَى الْوَطْءِ كَمَا حَمَلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِيَثْبُتَ بِإِطْلَاقِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْعَقْدِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا قِيلَ وَلَكِنَّ عَامَّةَ مَشَايِخِنَا وَجُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْعَقْدُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ النِّكَاحِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا فِي مَعْنَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَطْءِ مِنْ بَابِ التَّصْرِيحِ بِهِ وَمِنْ آدَابِ الْقُرْآنِ الْكِنَايَةُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُمَاسَّةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْقُرْبَانِ وَالتَّغَشِّي وَالْإِتْيَانِ.

وَقَوْلُهُ حَتَّى سُمِّيَ الْوَطْءُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَالِاجْتِمَاعُ فِي الْوَطْءِ (فَإِنْ قِيلَ) فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمِثَالَيْنِ اسْتِعَارَةُ اسْمِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ، وَقَدْ أَثْبَتُّمْ ذَلِكَ (قُلْنَا) الْمُسَبَّبُ مَخْصُوصٌ بِالسَّبَبِ فِي هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ فَكَانَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ فَيَجُوزُ اسْتِعَارَتُهُ لِلسَّبَبِ كَاسْتِعَارَةِ اسْمِ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَبَّبَ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ انْعِقَادُ اللَّفْظَيْنِ لَا يَصِيرُ عَقْدًا حَقِيقَةً إلَّا بِعَزِيمَةِ الْقَلْبِ وَقَصْدِهِ إذْ اللِّسَانُ مُعَبِّرٌ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ مَنْ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونِ وَكَذَا الْوَطْءُ الْمَقْصُودُ مَخْصُوصٌ بِالْعَقْدِ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيه الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، وَوَطْءُ الْإِمَاءِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَهُوَ بَابُ الِاسْتِخْدَامِ عَلَى مَا عُرِفَ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَلَا يَخْلُو عَنْ تَمَحُّلٍ وَتَكَلُّفٍ.

قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُزَاحِمُ الْحَقِيقَةَ وَلَا يُعَارِضُهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى آخِرِهِ أَمَةٌ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنْ كَانَ بَيْنَ كُلِّ وَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَقَالَ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ: أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ نَسَبَهُ مَجْهُولٍ، وَنَسَبُ الْمَجْهُولِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِيَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِخَطَرِ الْبَيَانِ وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ.

وَتَعْتِقُ الْجَارِيَةُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ وَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ النَّسَبِ إذَا لَمْ تَعْمَلْ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ كَانَ إقْرَارًا بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى أَصْلِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَحَدُهُمْ حُرٌّ فَيَعْتِقُ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتِقُ مِنْ الْأَكْبَرِ ثُلُثُهُ وَمِنْ الْأَوْسَطِ نِصْفُهُ وَالْأَصْغَرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَتَى لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُهَا عَلَى حُكْمِ الْوِلَادِ يَلْغُو أَصْلًا وَمَتَى أَمْكَنَ مِنْ وَجْهٍ نَزَلَ الْعِتْقُ عَلَى حُكْمِ الْوِلَادِ كَأَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ بَعْدَ هَذَا فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ إذَا ادَّعَاهُ الْمَوْلَى أَنَّهُ ابْنُهُ يَعْتِقُ وَلَا يُقْضَى بِالنَّسَبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَ هَهُنَا مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يُقْضَى بِالنَّسَبِ لِلْجَهَالَةِ وَلَكِنَّ الْوِلَادَ مُمْكِنٌ عَلَى مَا ادَّعَى فَيَنْزِلُ الْعِتْقُ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَإِذَا نَزَلَ عَلَى اعْتِبَارِهِ عَتَقَ مِنْ الْأَكْبَرِ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَنَاهُ عَتَقَ وَلَا يَعْتِقُ إنْ عَنَى الْآَخَرَيْنِ وَيَعْتِقُ نِصْفُ الْأَوْسَطِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ إنْ عَنَاهُ وَكَذَا إنْ عَنَى الْأَكْبَرَ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ فَيَعْتِقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا تَعْتِقُ أُمُّهُ وَلَا تَعْتِقُ إنْ عَنَى الْأَصْغَرَ وَأَحْوَالُ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ بِخِلَافِ أَحْوَالِ الْحِرْمَانِ فَلِهَذَا يَعْتِقُ نِصْفُهُ.

وَأَمَّا الْأَصْغَرُ فَهُوَ حُرٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>