لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ يَحْتَمِلُ الْإِدْرَاكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ لُغَةً
ــ
[كشف الأسرار]
ذُكِرَ هَذَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْفَنِّ جَعَلَ الْكِتَابَ قِسْمَيْنِ مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَجَعَلَ كُلَّ كَلَامٍ فِيهِ ظُهُورٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحْكَمِ وَجَعَلَ كُلَّ كَلَامٍ فِيهِ خَفَاءٌ مِنْ أَقْسَامِ الْمُتَشَابِهِ وَجَعَلَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُجْمَلِ وَجَعَلَ الْمُجْمَلَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْقَرَائِنِ إذْ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَعَ جَمِيعِ أَقْسَامِهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَفَى ذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذُكِرَ كَذَا سَمِعْت مِنْ شَيْخِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
فَإِنْ قُلْت هَذَا تَقْسِيمٌ مَعْقُولٌ سَهْلُ الْمَأْخَذِ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: ٧] ، فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ هَذِهِ التَّقَاسِيمُ الْمُعْضِلَةُ الْمُخَالِفَةُ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، قُلْت كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَتَرَاءَى أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ، فَإِذَا كُشِفَ عَنْهُ الْغِطَاءُ بِالتَّأَمُّلِ ظَهَرَ أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُهُ فَأَنْعِمْ النَّظَرَ إنَّ الْأَقْسَامَ الْمَذْكُورَةَ هَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكِتَابِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا وَجَدْتهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ إذْ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ ثُمَّ إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك النَّصُّ فَتَأَمَّلْ فِيهِ هَلْ هُوَ مُقْتَضٍ لِقَصْرِ الْكِتَابِ عَلَى الْقِسْمَيْنِ أَوْ لَا وَلَعَمْرِي أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: ٧] مَعْنَاهُ بَعْضُهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ.
وَقَوْلُهُ وَأُخَرُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ آيَاتٌ وَتَقْدِيرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمِنْهُ آيَاتٌ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُمَا كَيْفَ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ، وَهِيَ الْعَطْفُ كَقَوْلِك زَيْدٌ شَاعِرٌ لَا مُنَجِّمٌ أَوْ النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ كَقَوْلِك مَا زَيْدٌ إلَّا شَاعِرٌ أَوْ إنَّمَا كَقَوْلِك إنَّمَا زَيْدٌ ذَاهِبٌ أَوْ التَّقْدِيمِ كَقَوْلِك تَمِيمِيٌّ أَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ شَيْءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَطَفَ عَلَيْهِ وَآيَاتٌ أُخَرُ مُفَسَّرَاتٌ وَآيَاتُ أُخَرُ مُجْمَلَاتٌ لَاسْتَقَامَ وَلَوْ اقْتَضَى الْكَلَامُ الْأَوَّلُ الْقَصْرَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ لَمْ يَسْتَقِمْ الْعَطْفُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قِيلَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَالْبَاقِي مُتَشَابِهَاتٌ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤] ، وَالْمُحْكَمُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُرْجَى بَيَانُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قِسْمٌ آخَرُ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِيَصِحَّ إسْنَادُ الْبَيَانِ، إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤] ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى الْقِسْمَيْنِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْبَيَانِ مَا زَعَمْت بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّبْلِيغُ إذْ هُوَ بَيَانٌ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُمِرَ بِبَيَانِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِ وَالْبَيَانُ الَّذِي أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ مَا نُزِّلَ لَيْسَ إلَّا التَّبْلِيغُ فَأَمَّا بَيَانُ الْمُجْمَلِ فَهُوَ بَيَانٌ لِبَعْضِ مَا نُزِّلَ لَا لِكُلِّهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنَّ فِي الْكِتَابِ قِسْمًا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى بَيَانِ الرَّسُولِ كَالصَّلَاةِ وَالرِّبَا وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُرْجَى بَيَانُهُ وَالْمُحْكَمُ لَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ عَلَى الْبَيَانِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْقِسْمَيْنِ وَحَاصِلُهُ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى مَا ذَكَرْته أَوَّلًا، وَبَيَانُ الْفَرْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُشْتَرَكَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ بَعْضِ وُجُوهِهِ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعْنَاهُ لُغَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ آخَرَ وَقِسْمٌ لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيَانِ، فَهَذَا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُجْمَلِ دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا زَعَمَ الْمُخَالِفُ،
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُشْتَرَكَ هُوَ مَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ بِالتَّأَمُّلِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى مُشْتَرَكًا بَلْ هُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْمُجْمَلِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُسَمَّى الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مُشْتَرَكًا مَعَ كَوْنِهِ مُجْمَلًا وَعَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute