للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ التَّغَايُرُ فِي الْبَصَرِ وَكَذَلِكَ كَافُ التَّشْبِيهِ لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ لِمَا قُلْنَا مِنْ قِيَامِ الْمُغَايَرَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى إذَا قِيلَ زَيْدٌ مِثْلُك لَمْ يَثْبُتْ عُمُومُهُ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ الْمَحَلُّ الْعُمُومَ مِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا فَإِنَّ هَذَا عَامٌّ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَحْتَمِلُهُ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَرُفِعَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ غَيْرَ الْخَطَأِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ بَلْ هُوَ مُتَصَوَّرٌ فَسَقَطَ حَقِيقَتُهُ وَصَارَ ذِكْرُ الْخَطَأِ وَالْعَمَلِ مَجَازًا عَنْ حُكْمِهِ وَمُوجَبِهِ وَمُوجَبُهُ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ أَحَدُهُمَا الثَّوَابُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَالْمَأْثَمُ فِي الْحُرُمَاتِ وَالثَّانِي الْحُكْمُ الْمَشْرُوعُ فِيهِ مِنْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَانِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ

ــ

[كشف الأسرار]

بِانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُمْكِنٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَعِنْدَنَا نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ مُخْتَصٌّ بِالْفَوْزِ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: ٢٠] فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر: ٥٨] لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَقْتَصِرَ الْبَصِيرُ بِالْأَعْمَى وَيَسْتَوِيَانِ فِي الدِّيَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْبَصَرِ فَكَذَا هَذَا قَوْلُهُ (وَهُوَ التَّغَايُرُ فِي الْبَصَرِ) الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَمَى الْقَلْبِ وَبَصَرُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْقَضِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي ذِهْنِ كُلِّ أَحَدٍ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّفْسِيرِ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى أَيْ الْمُشْرِكُ الَّذِي لَا يُبْصِرُ الرُّشْدَ وَالْبَصِيرُ أَيْ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُبْصِرُهُ.

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ كَافُ التَّشْبِيهِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ عِنْدَ نَبْوَةِ الْمَحَلِّ عَنْهُ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْمُمَاثَلَةِ بِذِكْرِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ أَوْ بِلَفْظِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ عِنْدَ نَبْوَةِ الْمَحَلِّ أَيْضًا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ مِثَالُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ فِيهِ بِالْعُمُومِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ الْإِثْمُ فِي الْآخِرَةِ دُونَ حُكْمِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْقَطْعُ وَإِلَّا إذَا قَبِلَ الْمَحَلُّ الْعُمُومَ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ حِينَئِذٍ لِارْتِفَاعِ الْمَانِعِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَحْتَمِلُهُ إذْ الْمُمَاثَلَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حِسًّا وَطَبْعًا وَكَذَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ التَّشْبِيهِ إثْبَاتُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْحُكْمِ فَيَكُونُ عَامًّا وَرَأَيْت فِي حَاشِيَةٍ أَنَّا إنَّمَا عَمِلْنَا بِالْعُمُومِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ فِيهِ حَقْنَ الدَّمِ وَلَمْ نَعْمَلْ بِالْعُمُومِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الْحَدِّ وَالْحَدُّ يُحْتَالُ لِدَرْئِهِ لَا لِإِثْبَاتِهِ قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ) أَيْ وَمِمَّا تُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ فِيهِ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .

وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُوجَدَ الْعَمَلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ نَظَرًا إلَى كَلِمَةِ الْحَصْرِ وَأَنْ لَا يُوجَدَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ أَصْلًا نَظَرًا إلَى اسْتِنَادِ الِارْتِفَاعِ إلَى مَا هُوَ مُحَلًّى بِاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقِ لِلْجِنْسِ وَقَدْ نَرَى أَنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ بِلَا نِيَّةٍ وَكَذَا يُوجَدُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ فَعَرَفْنَا بِنَبْوَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ وَهُوَ الْعَمَلُ وَالْخَطَأُ وَاخْتَارَهُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِيقَةِ أَنَّهَا سَاقِطَةٌ وَلَيْسَتْ بِمُرَادَةٍ وَأَنَّ الْعَمَلَ فِي حَدِيثِ النِّيَّةِ وَالْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَالْإِكْرَاهَ فِي حَدِيثِ الرَّفْعِ مَجَازٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مُوجَبِهِ أَوْ بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: ٨٢] فَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ حُكْمُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَاتِ وَرُفِعَ حُكْمُ الْخَطَأِ ثُمَّ مَا صَارَ هَذَا الْكَلَامُ عِبَارَةً عَنْهُ وَهُوَ الْحُكْمُ لَهُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ أَحَدُهُمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ وَالْإِثْمُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الثَّانِي فَإِنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَهُوَ الْحُكْمُ الْمَشْرُوعُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ مِثْلُ الْجَوَازِ فِي الْأَعْمَالِ الْمَنْوِيَّةِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِسَاءَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ وَالْإِثْمَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>