. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
اطَّلَعَ عَلَى أَعْرُفْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمَارَسَ أَلْفَاظَ الْعَرَبِ لَا يَتَبَادَرُ إلَى فَهْمِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ حَرَّمْت عَلَيْك الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَحَرَّمْت عَلَيْك النِّسَاءَ سِوَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ فِي النِّسَاءِ وَلَا يَتَخَالَجُهُ شَكٌّ فِي أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِتَحْرِيمٍ لِنَفْسِ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ فَلَا يَكُونُ مُجْمَلًا وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ نِكَاحُ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَأُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ لِعَيْنِهِ.
قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إنَّ الْأُمَّةَ بِأَسْرِهَا أَجْمَعَتْ قَبْلَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَتَحْلِيلِ أَكْلِ النَّعَمِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ إجْمَاعًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَيُكَفِّرُونَ الْمُتَأَوِّلَ لَهَا وَيَقُولُونَ إنَّمَا حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ لِتَأْوِيلِهِ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَلَا يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ إلَّا بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْمُخَالِفُ فِي أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ ثَابِتٌ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ مُكَذِّبٌ الْأُمَّةَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُخَالَفَةِ الْأُمَّةِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَا ذَكَرْنَا وَبَيْنَ خِلَافِهَا فِي تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَمَنْ أَجَازَ أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ تَجْوِيزُ الْآخَرِ قَالَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَبَطَلَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَحَدُهُمَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَجُزْ التَّوَقُّفُ فِيهِ وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مُتَعَلِّقًا بِالْأَعْيَانِ الَّتِي لَا يَصِحُّ كَوْنُهَا مِنْ أَفْعَالِنَا وَلَا يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْهَا لِوُجُودِهَا تَعَيَّنَ الْقِسْمُ الْآخَرُ وَهُوَ رُجُوعُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ إلَى تَصَرُّفِنَا فِيهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّوَقُّفِ فِيهِمَا مَعْنًى مَعَ صِحَّةِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ بِبُطْلَانِ الْآخَرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ يَصِحُّ وَصْفُ الْعَيْنِ بِالْحُرْمَةِ حَقِيقَةً كَمَا يَصِحُّ وَصْفُ الْفِعْلِ بِهَا وَمَعْنَى اتِّصَافِهَا بِهَا خُرُوجُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ مَعْنَى وَصْفِ الْفِعْلِ بِالْحُرْمَةِ خُرُوجُهُ مِنْ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فَإِذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ لَا مَعْنَى لِلْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ قَالَ تَعَالَى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: ١٢] أَيْ مَنَعْنَا وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ.
{قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: ٥٠] أَيْ مَنَعَهُمْ شَرَابَ الْجَنَّةِ وَطَعَامَهَا وَمِنْهُ حَرَمُ مَكَّةَ لِمَنْعِ النَّاسِ عَنْ الِاصْطِيَادِ فِيهِ وَغَيْرِهِ وَحَرِيمُ الْبِئْرِ لِمَنْعِ الْغَيْرِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي حَوَالَيْهَا فَيُوصَفُ الْفِعْلُ بِالْحُرْمَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَبْدَ مُنِعَ عَنْ اكْتِسَابِهِ وَتَحْصِيلِهِ فَيَصِيرُ الْعَبْدُ مَمْنُوعًا وَالْفِعْلُ مَمْنُوعًا عَنْهُ وَتُوصَفُ الْعَيْنُ بِالْحُرْمَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَيْنَ مُنِعَتْ عَنْ الْعَبْدِ تَصَرُّفًا فِيهَا فَيَصِيرُ الْعَيْنُ مَمْنُوعَةً وَالْعَبْدُ مَمْنُوعًا عَنْهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ وَصْفَ الْعَيْنِ بِالْحُرْمَةِ صَحِيحٌ وَأَنَّ الْمَنْعَ نَوْعَانِ مَنْعُ الرَّجُلِ عَنْ الشَّيْءِ كَقَوْلِك لِغُلَامِك لَا تَأْكُلْ هَذَا الْخُبْزَ وَهُوَ مَوْضُوعٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَنْعُ الشَّيْءِ عَنْ الرَّجُلِ بِأَنْ رَفَعَ الْخُبْزَ مِنْ يَدَيْهِ أَوْ أَكَلَ فَإِذَا أُضِيفَ التَّحْرِيمُ إلَى الْفِعْلِ كَانَ مِنْ قَبِيلِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْعَيْنِ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي وَنَظِيرُهُمَا الْحِفْظُ وَالْحِمَايَةُ فَإِنَّ الْحِمَايَةَ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا فِي الْحِمَى بِدَفْعِ الْأَغْيَارِ عَنْهُ وَيَكُونُ فِعْلُ الْحَامِي فِي الْقَاصِدِ لِذَلِكَ الْمَحْمِيّ لَا فِي عَيْنِهِ فَيَبْقَى الْمَحْمِيّ عَلَى أَصْلِ الصِّيَانَةِ. وَالْحِفْظُ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمَحْفُوظِ بِصُنْعٍ فِي الْمَحْفُوظِ لَا فِي دَفْعِ الْقَاصِدِ إلَّا أَنَّ انْدِفَاعَ الْقَاصِدِ عَنْهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ فَيَحْصُلُ الصِّيَانَةُ.
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا ذَهَبَ الْمُحَافِظُ وَالْمُحَامِي ... وَمَانِعُ ضَيْمِنَا يَوْمَ الْخِصَامِ
ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا فِي الْحَالَيْنِ وَهُوَ الصِّيَانَةُ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ لَكِنْ بِطَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّحْرِيمِ فِي غَايَةِ التَّوْكِيدِ لِانْتِفَاءِ الْفِعْلِ فِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute