للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حُرُوفُ الْعَطْفِ وَهِيَ أَكْثَرُهَا وُقُوعًا وَأَصْلُ هَذَا الْقِسْمِ الْوَاوُ وَهِيَ عِنْدَنَا لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُقَارَنَةٍ وَلَا تَرْتِيبٍ وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّ الْوَاوَ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ حَتَّى قَالُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: ٦] يُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِالصَّفَا فِي السَّعْيِ وَقَالَ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: ١٥٨] فَفُهِمَ وُجُوبُ التَّرْتِيبِ

ــ

[كشف الأسرار]

بِتَوْفِيقِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ تَسْتَزِدْ بِهِ تَبَصُّرًا فِي دَرْكِ أَسْرَارِ مُسْتَوْدَعَاتِهِ، وَتَسْتَفِدْ بِهِ تَبَحُّرًا فِي الْوُقُوفِ عَلَى عَجَائِبِ مُسْتَبْدَعَاتِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْحُرُوفِ يُطْلَقُ عَلَى الْحُرُوفِ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ تَرَاكِيبِ الْكَلَامِ وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُوَصِّلُ مَعَانِيَ الْأَفْعَالِ إلَى الْأَسْمَاءِ وَعَلَى مَا يَدُلُّ بِنَفْسِهِ عَلَى مَعْنًى فِي غَيْرِهِ عَلَى مَا فُسِّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ بِأَنَّ الْحَرْفَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ حُرُوفَ التَّهَجِّي أَيْ التَّعَدُّدِ مِنْ هَجَى الْحُرُوفَ إذَا عَدَّدَهَا وَالثَّانِي حُرُوفَ الْمَعَانِي لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إيصَالِهَا مَعَانِيَ الْأَفْعَالِ إلَى الْأَسْمَاءِ أَوْ لِدَلَالَتِهَا عَلَى مَعْنًى فَإِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِك مَرَرْت بِزَيْدٍ حَرْفُ مَعْنًى لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْإِلْصَاقِ بِخِلَافِ الْبَاءِ فِي بَكْرٍ وَبِشْرٍ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى.

وَكَذَا الْهَمْزَةُ فِي أَزِيدُ حَرْفُ مَعْنًى بِخِلَافِهَا فِي أَحْمَدَ وَكَذَا مِنْ فِي قَوْلِك أَخَذْت مِنْ زَيْدٍ حَرْفُ مَعْنًى بِخِلَافِهِ فِي مِنْوَالٍ ثُمَّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْحُرُوفِ هَهُنَا عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَسْمَاءٌ مِثْلُ كُلٍّ وَمَتَى وَمِنْ وَإِذَا وَغَيْرِهَا لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُهَا حُرُوفًا سُمِّيَ الْجَمْعُ بِهَذَا الِاسْمِ قَوْلُهُ (حُرُوفُ الْعَطْفِ) الْعَطْفُ فِي اللُّغَةِ الثَّنْيُ وَالرَّدُّ يُقَالُ عَطَفَ الْعُودَ إذَا ثَنَاهُ وَرَدَّهُ إلَى الْآخَرِ فَالْعَطْفُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدَ الْمُفْرَدَيْنِ إلَى الْآخَرِ فِيمَا حَكَمْت عَلَيْهِ أَوْ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى فِي الْحُصُولِ.

وَفَائِدَتُهُ الِاخْتِصَارُ وَإِثْبَاتُ الْمُشَارَكَةِ وَأَصْلُ هَذَا الْقِسْمِ الْوَاوُ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِإِثْبَاتِ الْمُشَارَكَةِ وَدَلَالَةُ الْوَاوِ عَلَى مُجَرَّدِ الِاشْتِرَاكِ وَسَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فَإِنَّ الْفَاءَ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ مَعَهُ وَثُمَّ يُوجِبُ التَّرَاخِيَ مَعَهُ فَلَمَّا كَانَتْ فِي تِلْكَ الْحُرُوفِ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ الْعَطْفِ صَارَتْ كَالْمُرَكَّبَةِ مَعْنًى وَالْوَاوُ مُفْرَدٌ وَالْمُفْرَدُ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَطْفَ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ الِاشْتِرَاكِ وَالْوَاوُ مُتَمَخِّضَةٌ لِإِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى دُونَ غَيْرِهِ صَارَتْ أَصْلًا فِي الْعَطْفِ قَوْلُهُ (وَهِيَ عِنْدَنَا لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ) أَيْ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُقَارَنَةٍ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا تَرْتِيبَ كَمَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَعْنِي أَنَّهَا تَدُلُّ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ عَلَى اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى كَوْنِهِمَا مَعًا بِالزَّمَانِ أَوْ عَلَى تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِهِ، وَفِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الثُّبُوتِ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى أَيْ أَهْلِ الشَّرْعِ وَالْفَتَى الشَّابُّ الْقَوِيُّ الْحَدَثُ وَاشْتِقَاقُ الْفَتْوَى مِنْهُ لِأَنَّهَا جَوَابٌ فِي حَادِثَةٍ أَوْ أَحْدَاثٍ حُكْمٌ أَوْ تَقْوِيَةٌ لِبَيَانِ مُشْكِلٍ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ.

وَفِي الْقَوَاطِعِ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْوُضُوءِ يُعْتَبَرُ ذِكْرُ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ وَمَنْ خَالَفَ التَّرْتِيبَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ لَمْ يَجُزْ وَضْؤُهُ وَرُوِيَ عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ حَيْثُ يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ أَمَّا فِي الْمُفْرَدِ فَكَقَوْلِك زَيْدٌ رَاكِعٌ وَسَاجِدٌ وَأَمَّا فِي الْجُمْلَةِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: ٧٧] قَوْلُهُ (وَاحْتَجُّوا) تَمَسَّكَ مُثْبِتُو التَّرْتِيبِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>