وَقَالُوا لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ مَعْنَاهُ لَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُقَارَنَةٍ أَوْ تَرْتِيبٍ فِي الْوُجُودِ وَلَوْ اسْتَعْمَلَ الْفَاءَ مَكَانَهُ لَبَطَلَ الْمُرَادُ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ
أَيْ لَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فَهَذَا لِبَيَانِ الْوَضْعِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ أَسْمَاءٌ وَأَفْعَالٌ وَحُرُوفٌ
ــ
[كشف الأسرار]
الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَعْرِيفُ ذَوَاتِهِمْ فَلِذَلِكَ يُقَالُ جَاءَنِي بَكْرٌ وَبِشْرٌ وَخَالِدٌ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُتَّفِقَةً فَيُمْكِنُ اخْتِصَارُهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَالِاكْتِفَاءُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعَ كَمَالِ الْمَقْصُودِ فَيُقَالُ زَيْدُونَ احْتِرَازًا عَنْ التَّطْوِيلِ وَالتَّكْرِيرِ الْمُسْتَكْرَهِينَ وَهَذَا الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ جَاءَنِي بَكْرٌ وَبِشْرٌ وَخَالِدٌ كَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ هَذِهِ عَيْنُ تِلْكَ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ قَوْلُهُ (وَقَالُوا) أَيْ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ اعْلَمْ أَنَّ النَّصْبَ فِي قَوْلِك لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ.
بِإِضْمَارِ أَنْ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ أَدْخَلُوا مَا بَعْدَ الْوَاوِ فِي إعْرَابِ مَا قَبْلَهَا لَاشْتَمَلَ النَّهْيُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ النَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ إدْخَالُ تَشْرَبَ فِي إعْرَابِ تَأْكُلْ وَجَبَ أَنْ يُضْمَرَ أَنْ وَيُنَزَّلُ قَوْلُك لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ مَنْزِلَةَ لَا يَكُنْ مِنْك أَكْلُ السَّمَكِ لِيَكُونَ تَشْرَبَ، مَعَ تَقْدِيرِ أَنْ مَصْدَرًا مَعْطُوفًا عَلَى مِثْلِهِ نَحْوُ لَا يَكُنْ مِنْك أَكْلُ السَّمَكِ وَشُرْبُ اللَّبَنِ فَحَصَلَ بِهَذَا الْإِضْمَارِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ أَحَدَهُمَا مُبَاحٌ لَهُ وَمَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي غَيْرَ دَاخِلٍ فِي حُكْمِ الْأَوَّلِ فَنَصَبُوهُ صَارَ الْعُدُولُ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ نَصَبَهُ إذْ كَانَ سَبَبًا لِإِضْمَارِ أَنْ فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ النَّصْبَ بِنَفْسِ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى كَانَ عَامِلُهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا قَوْلُهُ (وَلَوْ اسْتَعْمَلَ الْفَاءَ مَكَانَهُ لَبَطَلَ الْمُرَادُ) لِأَنَّ الْغَرَضَ هَهُنَا الْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَلَا يُرَادُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَكْلُ سَبَبًا لِلشُّرْبِ نَحْوُ أَنْ تَقُولَ إنْ أَكَلْت السَّمَكَ شَرِبْت اللَّبَنَ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي قَوْلِك لَا تَنْقَطِعْ عَنَّا فَنَجْفُوَك أَيْ لَا يَكُنْ مِنْك انْقِطَاعٌ فَجَفَاءٌ مِنَّا وَكَقَوْلِك لَا تَدْنُ مِنْ الْأَسَدِ فَيَأْكُلَك أَيْ إنَّك إنْ دَنَوْت مِنْهُ أَكَلَك وَيَصِيرُ دُنُوُّك سَبَبًا لِأَكْلِهِ إيَّاكَ وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: ٨١] أَيْ لَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ فِي أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ فَإِنَّكُمْ إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حَلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَيَصِيرُ طُغْيَانُكُمْ سَبَبَ حُلُولِ آثَارِ الْغَضَبِ عَلَيْكُمْ وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْجَمْعَ وَجَبَ الثَّبَاتُ عَلَى الْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّ الْوَاوَ تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ وَالْفَاءَ تَدُلُّ أَنَّ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَاءَ لَا تَصْلُحُ فِي مَوْضِعِ الْوَاوِ كَمَا لَا تَصْلُحُ الْوَاوُ فِي مَوْضِعِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُضِعَتْ لِمَعْنًى عَلَى حِدَةٍ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلتَّرْتِيبِ قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ قَوْلِهِ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
أَيْ لَا يَكُنْ مِنْك نَهْيٌ عَنْ خُلُقٍ وَإِتْيَانٌ بِمِثْلِهِ أَيْ لَا تَجْمَعْ بَيْنَ هَذَيْنِ فَالنَّهْيُ عَنْ خُلُقٍ مُبَاحٌ لَهُ، إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِتْيَانِ مِثْلِهِ وَمَا حُكِيَ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُهُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَيَقُولُ إنَّ سَمَاعِي كَذَلِكَ فَوَجْهُهُ أَنْ تَكُونَ الْيَاءُ فِي تَقْدِيرِ النَّصْبِ كَقَوْلِهِ:
كَأَنَّ أَيْدِيهُنَّ بِالْقَاعِ الْفَرِقْ
أَوْ يَكُونُ عَلَى الِابْتِدَاءِ نَحْوُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَأَنْتَ تَأْتِي مِثْلَهُ وَقَبْلَهُ
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُقْبَلُ إنْ وَعَظْت وَتُقْتَدَى ... بِالْأَمْرِ مِنْك وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ
وَمِمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الْعَامَّةُ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: ٥٨] .
وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف: ١٦١] وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ آمِرًا وَمَأْمُورًا وَزَمَانًا