للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقُلْنَا أَمَّا الْقَوْلُ بِالتَّبْعِيضِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ وَالْمَوْضُوعُ لِلتَّبْعِيضِ كَلِمَةُ (مِنْ) وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْرَارَ وَالِاشْتِرَاكَ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَلَامِ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْعَوَارِضِ فَلَا يُصَارُ إلَى إلْغَاءِ الْحَقِيقَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى التَّوْكِيدِ إلَّا بِضَرُورَةٍ بَلْ هَذِهِ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْبَاءَ إذَا دَخَلَتْ فِي آلَةِ الْمَسْحِ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى مَحَلِّهِ كَمَا تَقُولُ مَسَحْت الْحَائِطَ بِيَدِي فَيَتَنَاوَلُ كُلَّهُ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى جُمْلَتِهِ وَمَسَحْت رَأْسَ الْيَتِيمِ بِيَدِي وَإِذَا دَخَلَ حَرْفُ الْإِلْصَاقِ فِي مَحَلِّ الْمَسْحِ بَقِيَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْآلَةِ وَتَقْدِيرُهُ وَامْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ بِرُءُوسِكُمْ أَيْ أَلْصِقُوهَا بِرُءُوسِكُمْ فَلَا تَقْتَضِي اسْتِيعَابَ الرَّأْسِ وَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي وَضْعَ آلَةِ الْمَسْحِ وَذَلِكَ لَا يَسْتَوْعِبُهُ فِي الْعَادَاتِ فَيَصِيرُ الْمُرَادُ بِهِ أَكْثَرَ الْيَدِ فَصَارَ التَّبْعِيضُ مُرَادًا بِهَذَا الشَّرْطِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى عَلَى أَنَّا إنْ عَمِلْنَا بِحَقِيقَتِهَا فَذَلِكَ يُوجِبُ الِاسْتِيعَابَ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ حَقِيقَةً وَقَدْ أَلْصَقَ الْمَسْحَ بِالرَّأْسِ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّهِ لَا لِبَعْضِهِ فَيَقْتَضِي مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ قَوْلُهُ (وَقُلْنَا نَحْنُ أَمَّا الْقَوْلُ بِالتَّبْعِيضِ فَلَا أَصْلَ لَهُ) أَيْ الْقَوْلُ بِالتَّبْعِيضِ كَلَامٌ عَنْ تَشَهٍّ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ إنَّمَا الْمَوْضُوعُ لِلتَّبْعِيضِ كَلِمَةُ مِنْ فَلَوْ أَفَادَتْ الْبَاءُ التَّبْعِيضَ لَوَجَبَ التَّكْرَارُ أَيْ التَّرَادُفُ لِدَلَالَةِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى مَعْنَى وَاحِدٍ.

وَالِاشْتِرَاكُ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَوْ أَفَادَتْ التَّبْعِيضَ لَكَانَ لَفْظٌ وَاحِدٌ دَالًّا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. هَذَا رَدُّ لِكَلَامِ الْقَائِلِينَ بِالتَّبْعِيضِ وَقَوْلُهُ وَلَا يُصَارُ إلَى إلْغَاءِ الْحَقِيقَةِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَالِكٍ أَيْ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ لَا يُصَارُ إلَى إلْغَائِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَبِأَنْ جَازَ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي مَوْضِعٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَكَانَتْ الْبَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا هُوَ أَصْلُهَا. وَبَيَانُ هَذَا أَيْ بَيَانُ أَنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ فِي الْآيَةِ وَأَنَّ التَّبْعِيضَ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ آخَرَ لَا بِالْبَاءِ أَنَّ الْمَسْحَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ آلَةٍ وَمَحَلٍّ فَإِذَا دَخَلَتْ الْبَاءُ فِي الْآلَةِ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْمَحَلِّ وَيَصِيرُ الْمَحَلُّ مَفْعُولَ فِعْلِهِ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ كَقَوْلِك مَسَحْت الْحَائِطَ بِيَدِي أَوْ مَسَحْت بِيَدِي الْحَائِطَ وَإِذَا دَخَلَتْ فِي الْمَحَلِّ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْآلَةِ وَلِهَذَا ظَهَرَ عَمَلُهُ فِيهَا حَتَّى انْتَصَبَتْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِيَّةِ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَحَلِّ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ لَكِنْ بِهَذِهِ الْآلَةِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَامْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ بِرُءُوسِكُمْ فَلَا يَقْتَضِي هَذَا الْكَلَامُ اسْتِيعَابَ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ كَمَا ظَنَّهُ مَالِكٌ. لِأَنَّهُ أَيْ الْمَسْحَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الرَّأْسِ بَلْ أُضِيفَ إلَى الْيَدِ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ لِلْحَالِ وَالْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ.

لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي وَضْعَ آلَةِ الْمَسْحِ عَلَى الرَّأْسِ وَإِلْصَاقَهَا بِهِ. وَذَلِكَ أَيْ وَضْعُ الْآلَةِ لَا يَسْتَوْعِبُ الرَّأْسَ فِي الْعَادَاتِ أَيْضًا لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَسْتَوْعِبُ الرَّأْسَ عَادَةً. إلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَصْلُحُ قَوْلُهُ (فَصَارَ الْمُرَادُ بِهِ أَكْثَرَ الْيَدِ) نَتِيجَةٌ لَهُ فَيُجْعَلُ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي لَا يَسْتَوْعِبُهُ عَائِدًا إلَى الْآلَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْ الْوَضْعُ لَا يَسْتَوْعِبُ الْآلَةَ فِي الْعَادَاتِ يَعْنِي هَذَا التَّقْدِيرَ وَإِنْ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْآلَةِ لَكِنْ فِي الْعَادَةِ لَا تُوضَعُ الْآلَةُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا عَلَى الرَّأْسِ فَإِنَّ مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَظَهْرِ الْكَفِّ لَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْمَسْحِ عَادَةً فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْأَكْثَرِ الَّذِي يُحْكَى حِكَايَةَ الْكُلِّ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ. فَصَارَ التَّبْعِيضُ مُرَادًا بِهَذَا الشَّرْطِ أَيْ صَارَ التَّبْعِيضُ مُرَادًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُقَدَّرًا بِآلَةِ الْمَسْحِ أَوْ بِأَكْثَرِهَا لَا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ التَّبْعِيضِ مُرَادًا عَمَلًا بِالْبَاءِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَوْضَحُ فَإِنَّهُ قَالَ وَإِذَا قُرِنَتْ الْبَاءُ بِمَحَلِّ الْمَسْحِ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إلَى الْآلَةِ فَلَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إلْصَاقَ الْآلَةِ بِالْمَحَلِّ وَذَلِكَ لَا يَسْتَوْعِبُ الْكُلَّ عَادَةً ثُمَّ أَكْثَرُ الْآلَةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكُلِّ فَيَتَأَدَّى الْمَسْحُ بِإِلْصَاقِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ بِمَحَلِّ الْمَسْحِ وَمَعْنَى التَّبْعِيضِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِحَرْفِ الْبَاءِ. وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِمَشَايِخِنَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: ٦] . أُدْخِلَ حَرْفُ الْبَاءِ فِي الْمَحَلِّ فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إلَى الْآلَةِ وَهِيَ الْيَدُ كَأَنَّهُ قِيلَ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ أَيْدِيَكُمْ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجَمْعَ مَتَى قُوبِلَ بِالْجَمْعِ يَنْقَسِمُ آحَادُ هَذَا عَلَى آحَادِ ذَلِكَ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ وَلْيَمْسَحْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِرَأْسِهِ يَدَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>