فَاسْتَقَامَ تَعْدِيَتُهُ إلَى الْكُلِّ الَّذِي هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِعَيْنِهِ فِي الْمَعْنَى وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ هُنَاكَ تَنَاوَلَ التَّمْلِيكَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْفِعْلَ فِي الْأَوَّلِ كَفَّارَةً وَهُوَ الْإِطْعَامُ وَجَعَلَ الْعَيْنَ فِي الثَّانِي كَفَّارَةً وَهُوَ الثَّوْبُ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ بِكَسْرِ الْكَافِ اسْمٌ لِلثَّوْبِ وَبِفَتْحِ الْكَافِ اسْمٌ لِلْفِعْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ الْعَيْنَ كَفَّارَةً لَا الْمَنْفَعَةُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَذَلِكَ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ الْإِعَارَةِ فَصَارَ النَّصُّ هُنَا وَاقِعًا عَلَى التَّمْلِيكِ الَّذِي هُوَ قَضَاءٌ لِكُلِّ الْحَوَائِجِ فِي الْمَعْنَى فَلَمْ يَسْتَقِمْ التَّعْدِيَةُ إلَى مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَاصِرٌ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ فِي الثِّيَابِ مُنْقَضِيَةٌ قَبْلَ الْكَمَالِ وَالْإِبَاحَةُ فِي الطَّعَامِ لَازِمَةٌ لَا مَرَدَّ لِفِعْلِ الْأَكْلِ فِيهَا فَهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ مَعَ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيَّنَّا وَكَانَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قِيَاسِ الطَّعَامِ بِالْكِسْوَةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مَعًا غَلَطًا
ــ
[كشف الأسرار]
وَتَمْكِينٌ لِذَلِكَ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ.
وَالضَّمِيرُ فِي مَقَامِهَا وَعَنْهَا رَاجِعٌ إلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالتَّأْنِيثُ لِتَأْنِيثِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَاسْتَقَامَ تَعْدِيَتُهُ أَيْ تَعْدِيَةُ حُكْمِ النَّصِّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَغَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةِ الدَّيْنِ وَأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ وَشِرَاءِ الثَّوْبِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ قِيلَ: التَّمْلِيكُ مُرَادٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ مَجَازٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَنَحَّى الْحَقِيقَةُ.
قُلْنَا: إنَّمَا جَوَّزْنَا التَّمْلِيكَ بِدَلِيلِ النَّصِّ لَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِطْعَامِ رَدُّ الْجَوْعَةِ وَهُوَ بِالتَّمْلِيكِ أَتَمُّ؛ لِأَنَّهُ بِرَدِّهَا مَتَى شَاءَ وَالْعَمَلُ بِدَلِيلِ النَّصِّ لَا يَمْنَعُ حَقِيقَتَهُ كَحُرْمَةِ الشَّتْمِ الثَّابِتَةِ بِدَلِيلِ النَّصِّ لَا يَمْنَعُ التَّأْفِيفَ.
قَوْلُهُ (الْكِسْوَةُ كَذَا) ذُكِرَ فِي الْمُغْرِبِ الْكِسْوَةُ اللِّبَاسُ. وَفِي الصِّحَاحِ الْكِسْوَةُ وَاحِدَةُ الْكُسَى. وَإِذَا كَانَ الْكِسْوَةُ اسْمًا لِلثَّوْبِ وَنَفْسُ الثَّوْبِ لَا يَكُونُ كَفَّارَةً لِأَنَّهَا اسْمٌ لِنَوْعِ عِبَادَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ احْتَجْنَا إلَى زِيَادَةِ فِعْلٍ يَصِيرُ الثَّوْبُ بِهِ كَفَّارَةً كَمَا فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّ الشَّاةَ لَا تَكُونُ عِبَادَةً بِنَفْسِهَا فَزِدْنَا فِعْلًا صَارَتْ الشَّاةُ بِهِ عِبَادَةً وَصَدَقَةً وَهُوَ الْإِيتَاءُ، ثُمَّ الْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ تَمْلِيكًا، وَقَدْ يَكُونُ إتْلَافًا بِلَا تَمْلِيكٍ كَالتَّحْرِيرِ وَالْكِسْوَةِ لَا تَصِيرُ كَفَّارَةً بِالْإِتْلَافِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى بَعْدَهُ كِسْوَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْكِسْوَةَ وَهِيَ ثِيَابٌ يُكْتَسَى فَلَمْ يَبْقَ، إلَّا التَّمْلِيكُ.
وَإِذَا أَعَارَهُمْ الثَّوْبَ فَمَا فِيهَا تَمْلِيكُ ثَوْبٍ وَلَا إتْلَافُهُ فَلَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ كَفَّارَةً بَلْ فِيهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ الْمَنَافِعَ كَفَّارَةً إنَّمَا جَعَلَ الثَّوْبَ كَفَّارَةً فَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَإِتْلَافٌ لِلطَّعَامِ بِالْأَكْلِ فَيَصِيرُ الطَّعَامُ بِالْإِطْعَامِ خَارِجًا عَنْ مِلْكِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَفِ بِالْفَقِيرِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الْفِعْلِ يَصْلُحُ فِعْلَ تَكْفِيرٍ كَالتَّحْرِيرِ فَلَمْ يُضْطَرَّ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَأَمَّا إذَا قَالَ: أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّمَا يَجْعَلُهُ هِبَةً مَجَازًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّا مَتَى جَعَلْنَاهُ حَقِيقَةً كَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَطْعَمًا، إلَّا بِأَنْ يَصِيرَ الطَّعَامُ مَأْكُولًا وَأَنَّهُ جَعَلَ الطَّعَامَ مَفْعُولَ إطْعَامِهِ فَمَتَى كَانَ الطَّعَامُ قَائِمًا لَا يَكُونُ مَفْعُولَ الْأَكْلِ وَيَصْلُحُ مَفْعُولَ التَّمْلِيكِ مَعَ قِيَامِهِ فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِطْعَامَ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولَيْنِ وَتَأْثِيرُهُ فِي الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ يَجْعَلُهُ طَاعِمَا كَمَا بَيَّنَّا وَفِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي إذَا كَانَ يُطْعِمُ عَيْنَهُ يَجْعَلُهُ مَمْلُوكًا لِلطَّاعِمِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْعَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَصَرُّفًا فِيهَا يَجْعَلُهَا مَطْعُومَةً لِلطَّاعِمِ؛ لِأَنَّ الطَّعْمَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مِنْهُ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِطْعَامِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَيُجْعَلَ تَصَرُّفًا فِيهَا بِالتَّمْلِيكِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الطُّعْمِ وَمُفْضٍ إلَيْهِ وَلَمْ تُجْعَلْ إبَاحَةً وَإِنْ صَلُحَتْ سَبَبًا لِلطَّعْمِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَصَرُّفٍ فِي الْعَيْنِ وَلِأَنَّهَا قَدْ حَصَلَتْ بِجَعْلِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ طَاعِمًا إذْ أَدْنَى طُرُقُهُ الْإِبَاحَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ تَأْثِيرٍ لَهُ فِي الثَّانِي وَذَلِكَ بِالتَّمْلِيكِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ كِلَا مَفْعُولَيْهِ كَانَ دَالًّا عَلَى التَّمْلِيكِ فَأَمَّا إذَا حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مِنْهُ فَقَدْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَ كَأَنْ لَيْسَ لَهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، فِي عِلْمِ الْمَعَانِي فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُجْعَلَ تَمْلِيكًا لِعَدَمِ مَحِلِّهِ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهُ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا لَا غَيْرَ لِاقْتِصَارِ عَمَلِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِبَاحَةِ فَفِي النُّصُوصِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْمَسَاكِينِ لَا ذِكْرَ مَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ فَلَا يَدُلُّ الْإِطْعَامُ فِيهَا عَلَى التَّمْلِيكِ فَجُعِلَ إبَاحَةً فَأَمَّا فِي قَوْلِك أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَكِلَا مَفْعُولَيْهِ مَذْكُورٌ فَيَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ هِبَةً.
فَإِنْ قِيلَ: الْكِسْوَةُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ أَيْضًا يُقَالُ كَسَاهُ كِسْوَةً بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute