للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَسَاكِينَ صَارُوا مَصَارِفَ بِحَوَائِجِهِمْ فَكَانَ الْوَاجِبُ قَضَاءَ الْحَوَائِجِ لِأَعْيَانِ الْمَسَاكِينِ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْإِشَارَةُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ؛ لِأَنَّ إطْعَامَ الطَّاعِمِ الْغَنِيَّ لَا يَتَحَقَّقُ كَتَمْلِيكِ الْمَالِكِ لَا يَتَحَقَّقُ وَمِنْ قَضِيَّةِ الْإِطْعَامِ الْحَاجَةُ إلَى الطُّعْمِ وَثَبَتَتْ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ اسْمَهُمْ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْعَامَ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامَ مِثْلُ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي سَاعَةٍ لِوُجُودِ عَدَدِ الْحَوَائِجِ كَامِلَةً فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يُوجَدُ فِي كِسْوَةِ مِسْكِينٍ عَشَرَةُ أَثْوَابَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامَ، وَقَدْ جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ إلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: هَذَا الَّذِي تَقُولُ حَاجَةُ اللَّبُوسِ وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ تَنَاوَلَ التَّمْلِيكَ عَلَى مَا قُلْنَا، وَقَدْ أَقَمْنَا التَّمْلِيكَ مَقَامَ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ كُلِّهَا وَالثَّوْبُ قَائِمٌ إذَا اُعْتُبِرَتْ اللَّبُوسُ، وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ جُمْلَةُ الْحَوَائِجِ صَارَ مَالِكًا فِي التَّقْدِيرِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ عَلَى هَذَا مُتَوَاتِرًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَاتِ إذَا قُضِيَتْ لَمْ تَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَجَدُّدِهَا وَلَا تَجَدُّدَ إلَّا بِالزَّمَانِ وَادُنَى ذَلِكَ يَوْمٌ لِجُمْلَةِ الْحَوَائِجِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْوَسَطُ مِنْ حَيْثُ الْمَرَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ هُوَ الْمَرَّةُ الَّتِي تُسَمَّى وَجْبَةً وَهِيَ فِي ذَلِكَ وَقْتُ الزَّوَالِ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي وَالْأَكْثَرُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ غَدَاءً وَعَشَاءً وَنِصْفَ النَّهَارِ فَكَانَ الْوَسَطُ مَا ذَكَرْنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ طَعَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ فَقَالَ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: ٦٢] قَوْلُهُ (وَفِيهِ) أَيْ وَفِي هَذَا النَّصِّ إشَارَةٌ إلَى كَذَا إذَا صُرِفَ الطَّعَامُ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَالْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ وَالْحَاجَةِ لَا يَصِيرُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كَالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَصِيرُ شَاهِدَيْنِ بِتَكْرَارِ الْأَدَاءِ.

وَقُلْنَا نَحْنُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَازِ كَمَا قَرَّرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ صَارُوا مَصَارِفَ بِحَوَائِجِهِمْ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَتْ بِهَتْكِ حُرْمَتِهِ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَكُنْ الْفَقِيرُ مُسْتَحِقًّا لَهَا بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِرِزْقِهِ لِحَاجَتِهِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ صَارُوا مَصَارِفَ صَالِحَةً لِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ.

ثَبَتَتْ هَذِهِ الْإِشَارَةُ بِالْفِعْلِ أَيْ بِإِيجَابِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ؛ لِأَنَّ إطْعَامَ الطَّاعِمِ الْغَنِيَّ أَيْ إطْعَامَ مَنْ قَدْ طَعِمَ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْأَكْلِ لَا يَتَحَقَّقُ إذْ لَا بُدَّ لِلْإِطْعَامِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْأَكْلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ إطْعَامُ الْجَائِعِ لَمَّا كَانَ إطْعَامُ الشَّبْعَانِ مُتَعَذِّرًا وَإِنْ صُرِفَ الطَّعَامُ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ لَا لِأَعْيَانِهِمْ وَإِنْ ذُكِرَ الْعَدَدُ لِبَيَانِ عَدَدِ الْحَوَائِجِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ قَضَاءُ عَشْرِ حَاجَاتٍ.

وَثَبَتَ أَيْضًا أَيْ وَثَبَتَ أَنَّهُمْ صَارُوا مَصَارِفَ لِحَوَائِجِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَسَاكِينِ أَيْ بِإِضَافَةِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ إلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُ نَصٌّ عَلَى صِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فِي الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ وَهِيَ الْمَسْكَنَةُ.

فَدَلَّ ذَلِكَ أَيْ دَلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ لَا أَعْيَانُ الْمَسَاكِينِ عَلَى كَذَا.

وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالدَّفْعِ إلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الَّذِي ارْتَكَبَ بِأَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي يَوْمٍ رُبَّمَا عَجَلَتُهُ مُنْيَتُهُ فَيَبْقَى ذَنْبُهُ غَيْرَ مُكَفَّرٍ لَا أَنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْمَعْنَى الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّكْفِيرُ أَوْ يُوجِبُ خَلَلًا فِيهِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَى مِسْكِينٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّ هَذَا دَفَعَ إلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ؛ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ كَالرَّأْسِ الْوَاحِدِ وَالنِّصَابُ الْوَاحِدُ يَصِيرُ مُتَعَدِّدًا بِتَجَدُّدِ الْمُؤْنَةِ وَالنَّمَاءِ.

وَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَحْصُلُ بِالْعَدَدِ وَهُوَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَتَقْلِيلُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ لَا يَحْصُلُ بِتَكْرَارِ الْوَاحِدِ شَهَادَتَهُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ.

يُوَضَّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَرْبَعَةَ أُمَنَاءَ مِنْ شَعِيرٍ لَمَا صَلُحَتْ أَنْ يَصِيرَ أَرْبَعِينَ مَنًّا تَقْدِيرًا بِأَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَى الْفَقِيرِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ، ثُمَّ يُؤَدِّيهَا إلَى فَقِيرٍ آخَرَ، ثُمَّ هَكَذَا إلَى أَنْ تَتِمَّ الْكَفَّارَةُ جَازَ أَيْضًا أَنْ يَصِيرَ الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِسْكِينًا آخَرَ حُكْمًا لِمَا عُرِفَ أَنَّ لِتَجَدُّدِ الْوَصْفِ تَأْثِيرًا فِي تَبَدُّلِ الْعَيْنِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أَيْ عَدَدُ الْحَوَائِجِ كَامِلَةً فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا يُوجَدُ فِي كِسْوَةِ مِسْكِينٍ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ إلَى آخِرِهِ. أَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَسَقَطَ

<<  <  ج: ص:  >  >>