للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَمْ يَجُزْ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنًى مُسْتَنْبَطٍ بِالرَّأْيِ نَظَرًا لَا لُغَةً حَتَّى اخْتَصَّ بِالْقِيَاسِ الْفُقَهَاءُ وَاسْتَوَى أَهْلُ اللُّغَةِ كُلُّهُمْ فِي دَلَالَاتِ الْكَلَامِ مِثَالُهُ أَنَّا أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاقَعْت امْرَأَتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَعَ عَنْ الْجِنَايَةِ وَالْمُوَاقَعَةُ عَيْنُهَا لَيْسَتْ بِجِنَايَةٍ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ وَاقِعٍ عَلَى مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ، إلَّا أَنَّ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ لُغَةً مِنْ هَذَا الْمَسَائِلِ هُوَ الْفِطْرُ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ وَإِنَّمَا أَجَابَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ حُكْمِ الْجِنَايَةِ فَكَانَ بِنَاءً عَلَى مَعْنَى الْجِنَايَةِ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ وَالْمُوَاقَعَةُ آلَةُ الْجِنَايَةِ فَأَثْبَتْنَا الْحُكْمَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ فِي الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الصَّبْرَ عَنْهُ أَشَدُّ وَالدَّعْوَةُ إلَيْهِ أَكْثَرُ فَكَانَ أَقْوَى فِي الْجِنَايَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي الشَّتْمِ مَعَ التَّأْفِيفِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنَى النَّصِّ لَا بِظَاهِرِهِ لَمْ نُسَمِّهِ عِبَارَةً وَلَا إشَارَةً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً لَا رَأْيًا سَمَّيْنَاهُ دَلَالَةً لَا قِيَاسًا

ــ

[كشف الأسرار]

عِبَارَةَ النَّصِّ الْمُحَارَبَةُ وَصُورَةُ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ وَمَعْنَاهَا لُغَةً قَهْرُ الْعَدُوِّ وَالتَّخْوِيفُ عَلَى وَجْهٍ يَنْقَطِعُ بِهِ الطَّرِيقُ وَهَذَا مَعْنًى مَعْلُومٌ بِالْمُحَارَبَةِ لُغَةً وَالرَّدْءُ مُبَاشِرٌ لِذَلِكَ كَالْمُقَاتِلِ وَلِهَذَا اشْتَرَكُوا فِي الْغَنِيمَةِ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرِّدْءِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ. وَإِيجَابُ الرَّجْمِ عَلَى غَيْرِ مَاعِزٍ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ فَرُجِمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرْجَمْ لِأَنَّهُ مَاعِزٌ وَصَحَابِيٌّ بَلْ لِأَنَّهُ زَنَى فِي حَالَةِ الْإِحْصَانِ فَيَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ.

قَوْلُهُ (وَلَمْ يَجُزْ بِالْقِيَاسِ) إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْحُدُودُ وَالْكَفَّارَاتُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَلِأَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي قَامَتْ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ مَوْضِعٍ وَمَوْضِعٍ فَصَحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ.

وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَاتِ شُرِعَتْ مَاحِيَةً لِلْآثَامِ الْحَاصِلَةِ بِارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ أَيْضًا لِمَا عُرِفَ، وَكَذَا الْحُدُودُ شُرِعَتْ عُقُوبَةً وَجَزَاءً عَلَى الْجِنَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُهَا وَفِيهَا مَعْنَى الطُّهْرَةِ أَيْضًا بِشَهَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ وَآثَامِهَا وَمَعْرِفَةُ مَا يَحْصُلُ بِهِ إزَالَةُ آثَامِهَا وَمَعْرِفَةُ مَا يَصْلُحُ جَزَاءً لَهَا وَزَاجِرًا عَنْهَا وَمَقَادِيرُ ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى الرَّأْيِ.

بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَهُ النَّصُّ لُغَةً فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ. وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ لَمَّا صَارَ مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ انْتَفَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ فَيَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِهِ. وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالشُّبْهَةِ الْمَانِعَةِ اخْتِلَالُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُدُودُ وَالْكَفَّارَاتُ فِي نَفْسِهِ لَا الشُّبْهَةُ الْوَاقِعَةُ فِي طَرِيقِ دَلِيلِ الثُّبُوتِ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ لِاتِّفَاقِ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِإِخْبَارِ الْأُحَادِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ إثْبَاتِ أَسْبَابِ الْحُدُودِ فِي مَجَالِسِ الْحُكَّامِ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنْ صَدَرَتْ عَمَّنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ وَالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ.

قَوْلُهُ (مِثَالُهُ) أَيْ مِثَالُ الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ. وَقَوْلُهُ دُونَ الْقِيَاسِ رَدٌّ لِمَا ادَّعَى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَيْنَا وَقَالُوا: إنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ صِحَّةَ الْمُقَايَسَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ، ثُمَّ أَثْبَتُّمْ الْكَفَّارَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوَاقِعِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْكُمْ مُنَاقَضَةً قَالَ مَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ.

وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ مَا رُوِيَ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت. فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْت؟ فَقَالَ: وَاقَعْت أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً؛ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَفْحَةِ عُنُقِهِ وَقَالَ: لَا أَمْلِكُ، إلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ؛ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ فَقَالَ هَلْ أَتَيْت مَا أَتَيْت، إلَّا مِنْ الصَّوْمِ، فَقَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَقَالَ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ فَأُتِيَ بِصَدَقَاتِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقَالَ: خُذْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَقَالَ: أَعْلَى أَهْلِ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهَا مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي، وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحْوَجُ إلَيْهَا مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُك» . وَزِيدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «يُجْزِيك وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَك» . بَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالدَّلَالَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>