للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّصَّ فِي عُذْرِ النَّاسِي وَرَدَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي الْوَطْءِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ فِعْلٌ مَعْلُومٌ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ إمَّا صُورَتُهُ فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَدْفُوعٌ إلَيْهِ خِلْقَةً وَطَبِيعَةً وَكَانَ ذَلِكَ سَمَاوِيًّا مَحْضًا فَأُضِيفَ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَصَارَ عَفْوًا، هَذَا مَعْنَى النِّسْيَانِ لُغَةً وَهُوَ كَوْنُهُ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ فَعَلِمْنَا بِهَذَا الْمَعْنَى فِي نَظِيرِهِ فَإِنْ قِيلَ هُمَا مُتَفَاوِتَانِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يُحْوِجُهُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُحْوِجُهُ إلَى الْوَاقِعَةِ بَلْ يُضَعِّفُهُ عَنْهَا فَصَارَ كَالنِّسْيَانِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ قُلْنَا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَزِيَّةٌ فِي أَسْبَابِ الدَّعْوَةِ وَفِيهِ قُصُورٌ فِي حَالَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ الْبَشَرَ وَأَمَّا الْمُوَاقَعَةُ فَقَاصِرَةٌ فِي أَسْبَابِ الدَّعْوَةِ وَلَكِنَّهَا كَامِلَةٌ فِي حَالِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ تَغْلِبُ الْبَشَرَ فَصَارَ سَوَاءً فَصَحَّ الِاسْتِدْلَال، وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

ــ

[كشف الأسرار]

إتْلَافِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ مَنَافِعِ بُضْعِ مَمْلُوكَةٍ لِلرَّجُلِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ هُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ وَلَوْ كَانَتْ الْمَنَافِعُ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ بِأَنْ زَنَى لَا يَنْمَحِي حُرْمَةُ إتْلَافِهَا بِالْكَفَّارَةِ وَلَوْ زَنَى نَاسِيًا لِلصَّوْمِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَنَافِعِ وَإِنْ وُجِدَ فَإِفْسَادُ الصَّوْمِ لَمْ يُوجَدْ وَفِي الطَّعَامِ إيجَابُهَا عِنْدَنَا لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ أَيْضًا لَا لِحُرْمَةِ إتْلَافِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ لَوْ أَكَلَ طَعَامَ نَفْسِهِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ وَلَوْ أَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ لَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ مَعَ حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى مَمْنُوعَةٌ بَلْ الْجِمَاعُ نَقِيضُ الصَّوْمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ جَمِيعًا لِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْكُلَّ بِاللَّيْلِ وَأَمْرُهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْكُلِّ فِي النَّهَارِ فَيَفُوتُ الصَّوْمُ بِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ وَكَوْنِ الِامْتِنَاعِ عَنْ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ أَصْلًا لَا يَمْنَعُ مِنْ اسْتِوَائِهِمَا فِي تَفْوِيتِ الصَّوْمِ وَإِفْسَادِهِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْمَأْثَمُ إفْسَادِ الصَّوْم، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الْإِفْسَادِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمَأْثَمِ.

وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالْجِمَاعِ بِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ إلَّا فَسَادُ صَوْمِهِ وَإِنَّمَا فَسَدَ صَوْمُهَا بِفِعْلِهَا وَهُوَ قَضَاءُ شَهْوَتِهَا وَلِهَذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ أَيْضًا كَمَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِالتَّمْكِينِ فِي بَابِ الزِّنَى أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً أَوْ كَانَتْ نَاسِيَةً لِلصَّوْمِ فَجَامَعَهَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَالْجِمَاعُ هَهُنَا لَمْ يُوجِبْ إلَّا فَسَادَ صَوْمِ وَاحِدٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِ صَوْمِ وَاحِدٍ لَا بِإِفْسَادِ صَوْمَيْنِ.

وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ تَكُونُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ كَمَا فَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي مَسْأَلَةِ اللِّوَاطَةِ مَعَ الزِّنَا فَأَمَّا جِهَةُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَمُخْتَلِفَةٌ وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا عِبْرَةَ فِيهِ لِلْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِيهِ لِلْغَلَبَةِ أَوْ الْقُوَّةِ وَهُمَا جَمِيعًا لِقَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ دُونَ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ فَإِنَّهَا تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ عَادَةً وَبَقِيَتْ مَا دَامَ الرُّوحُ فِي الْبَدَنِ وَشَهْوَةُ الْفَرْجِ لَا تَتَجَدَّدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَتَنْقَطِعُ بِاسْتِيلَاءِ الْكِبْرِ، وَكَذَا الْإِنْسَانُ يَصْبِرُ عَنْ الْوِقَاعِ دَهْرًا طَوِيلًا وَلَا يَصْبِرُ عَنْ الْأَكْلِ، إلَّا قَلِيلًا فَكَانَتْ شَهْوَةُ الْبَطْنِ أَغْلَبُ وَأَقْوَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِشَرْعِ الزَّاجِرِ، عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ قِيَامُهُ بِاثْنَيْنِ كَانَ حُصُولُهُ أَقَلَّ مِمَّا إذَا كَانَ قِيَامُهُ بِوَاحِدٍ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مَعْصِيَةً فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إنْ قَصَدَ الْعِصْيَانَ فَالْآخَرُ لَا يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَذَا هَيَجَانُ الشَّهْوَةِ الَّذِي لَا يَقَعُ الْجِمَاعُ إلَّا بِهِ مِنْ الشَّخْصَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعَ وُجُودِ الْحُرْمَةِ شَرْعًا قَلَّ مَا يَتَّفِقُ.

١ -

وَعَنْ الْخَامِسِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَنَاهِيَ الْجُوعِ مُبِيحٌ بَلْ الْمُبِيحُ خَوْفُ التَّلَفِ وَكَيْفَ يَكُونَ الْجُوعُ مُبِيحًا لِلْإِفْطَارِ وَالصَّوْمُ مَا شُرِعَ، إلَّا لِحِكْمَةِ الْجُوعِ بَقِيَ أَنَّ خَوْفَ التَّلَفِ شَرْطُهُ تَنَاهِي الْجُوعِ وَلَكِنْ بَعْضُ الْعِلَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ أَصْلًا فَبَعْضُ الشَّرْطِ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِبْرَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كَذَا فِي طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ وَغَيْرِهَا قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي كَذَا يَعْنِي مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي أَكَلْت وَشَرِبْت فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَك وَسَقَاك فَتِمَّ عَلَى صَوْمِك» . لِأَنَّ النِّسْيَانَ فِعْلٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اخْتِيَارِيًّا كَالسُّقُوطِ وَنَحْوِهِ وَلِهَذَا يُقَالُ نَسِيَ يَنْسَى. مَعْلُومٌ بِصُورَتِهِ وَهِيَ الْغَفْلَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>