للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَلَا تَرَى أَنَّهُ فُوِّضَ إلَى الْأَئِمَّةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤] فَلَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا يُقَامُ ابْتِدَاءً بِوِلَايَةِ الْإِمَامِ فَأَمَّا الْحِكَايَةُ عَنْ حَالٍ قَائِمَةٍ فَلَا فَاعْتُبِرَ تَمَامُهَا بِصِيغَتِهَا فَكَانَتْ فِي حَقِّ الْجَزَاءِ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ الْمُبْتَدَأَةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: ٢٤] وَمِثْلُ قَوْلِهِ {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: ٥] {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: ١٥] وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَطَعَ قَوْلَهُ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الِاتِّصَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ غَلَطٌ وَقُلْنَا نَحْنُ بِصِيغَةِ الْكَلَامِ أَنَّ الْقَذْفَ سَبَبٌ وَالْعَجْزَ عَنْ الْبَيِّنَةِ شَرْطٌ بِصِفَةِ التَّرَاخِي وَالرَّدَّ حَدٌّ مُشَارِكٌ لِلْجَلْدِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ بِالْوَاوِ وَالْعَجْزَ عَطْفٌ بِثُمَّ.

ــ

[كشف الأسرار]

وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصْلُحُ جَزَاءً وَاحِدًا مُفْتَقِرٌ إلَى الشَّرْطِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَلْحَقُ بِالْأَوَّلِ وَيَصِيرُ الْكُلُّ حَدًّا لِلْقَذْفِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَتَغْرِيبُ عَامٍ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْبِكْرِ لِلْعَطْفِ وَلَكِنَّا لَمْ نَجْعَلْ التَّقْرِيبَ حَدًّا لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَلِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِغْرَاءِ عَلَى ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ دُونَ الزَّجْرِ فَأَمَّا رَدُّ الشَّهَادَةِ فَثَابِتٌ بِالْكِتَابِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَلْدِ وَأَنَّهُ صَالِحٌ لِتَتْمِيمِ الْحَدِّ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ تُقَامُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمَقْذُوفِ عَلَى مَا عُرِفَ وَحَقُّهُ فِي زَوَالِ مَا لِحَقِّهِ مِنْ الْعَارِ بِتُهْمَةِ الزِّنَا وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَنْ يَصِيرَ الْقَاذِفُ مُكَذِّبُ الشَّهَادَةِ مَرْدُودَ الْكَلَامِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَلَّمُ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ وَإِبْطَالِ كَلَامِهِ فَوْقَ مَا يَتَأَلَّمُ بِالضَّرْبِ فَيَصْلُحُ عُقُوبَةً فَيَحْصُلُ بِهِ الزَّجْرُ ثُمَّ جَرِيمَةُ الْقَاذِفِ بِاللِّسَانِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ حَدٌّ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الْجَرِيمَةُ فَكَانَ جَزَاءً وِفَاقًا كَشَرْعِيَّةِ حَدِّ السَّرِقَةِ فِي الْيَدِ الَّتِي هِيَ آلَةُ الْأَخْذِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إقَامَةِ الْجَلْدِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ لِأَنَّهُ إيلَامٌ بَاطِنًا كَالْقَذْفِ إلَّا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَتَأَلَّمُ بِهِ وَلَا يَنْزَجِرُ بِهِ عَنْ الْقَذْفِ فَضَمَّ إلَيْهِ الْإِيلَامَ الْحِسِّيَّ لِيَشْمَلَ الزَّاجِرُ الْجَمِيعَ وَيَحْصُلَ الِانْزِجَارُ عَامًّا وَجُعِلَ الرَّدُّ تَتْمِيمًا لَهُ لِيَكُونَ جَزَاءً وِفَاقًا.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: ٤] شَهَادَةٌ يُقِيمُهَا الْقَاذِفُ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ بِدَلِيلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ يَعْنِي إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ لَا تَقْبَلُوا لِأَجْلِهِمْ شَهَادَةً عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِمْ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَإِنَّ الْقَاذِفَ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ لَقِيلَ وَلَا تَقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ قُلْنَا: الْمُرَادُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَوَادِثِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا قَامَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ تُقْبَلُ وَيَصِيرُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وقَوْله تَعَالَى لَهُمْ شَهَادَةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ شَهَادَتُهُمْ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ دَارُك وَهَذِهِ دَارٌ لَك وَالدَّالُّ عَلَيْهِ أَنَّ شَهَادَةً نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي النَّفْيِ فَيُوجِبُ الْعُمُومَ وَلَوْ حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهَا لِأَنَّ شَهَادَةً تُقِيمُهَا عَلَى سَائِرِ حُقُوقِهِ مَقْبُولَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ: وَلَا تَقْبَلُوا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِأَنَّهُ تَحْرِيمُ الْقَبُولِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حَدًّا لِأَنَّ الْحَدَّ فِعْلٌ يَلْزَمُ لِلْإِمَامِ إقَامَتُهُ لَا حُرْمَةُ فِعْلٍ وَلَيْسَ فِيهَا فِعْلٌ وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتَصَوُّرِهِ وَأَنْتُمْ أَبْطَلْتُمْ وَالْإِبْطَالُ فَوْقَ النَّهْيِ. قُلْنَا قَوْلُكُمْ النَّهْيُ لَا يَصْلُحُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ مُسَلَّمٌ غَيْرَ أَنَّ النَّهْيَ الْمُحَرِّمَ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ دَلَّنَا عَلَى بُطْلَانِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالْحَدِّ الَّذِي أُمْضِيَ عَلَى الْقَاذِفِ

<<  <  ج: ص:  >  >>