للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْفِطْرِ: إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مُطْلَقًا» وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَمَلُنَا نَحْنُ بِهِمَا بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّا لَمْ نَجْمَعْ بَيْنَ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ الْقُرَّاءِ الْمَعْرُوفَةِ لِيَجُوزَ الْأَمْرَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّصَّيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَرَدَا فِي الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ هُوَ الصَّوْمُ فِي وُجُوهٍ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ تَقْيِيدُهُ بَطَلَ إطْلَاقُهُ وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ دَخَلَ النَّصَّانِ عَلَى السَّبَبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ فِي الْأَسْبَابِ فَوَجَبَ الْجَمْعُ

ــ

[كشف الأسرار]

بِقَوْلِهِمْ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْت: إنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ بَلْ بَلَّغَ وَلَكِنْ أَنْسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقُلُوبِ نَسْخًا لِتِلَاوَتِهِ سِوَى قَلْبِ ابْنِ مَسْعُودٍ إبْقَاءً لِحُكْمِهِ كَمَا قُلْنَا جَمِيعًا بِنَسْخِ تِلَاوَةِ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ إذَا زَانَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَبَقَاءُ حُكْمِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَإِنَّكُمْ قَدْ قَبِلْتُمْ خَبَرَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٌ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ وَكَانَ مِمَّا يُتْلَى مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ نَسِيَتْ النَّظْمَ أَيْضًا فَخَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ حِفْظِهِ النَّظْمَ كَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.

وَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ نَقْلٌ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ إذْ لَا يُظَنُّ بِأَحَدٍ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ يَزِيدُ حَرْفًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُظَنُّ ذَلِكَ بِمَنْ هُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَأَجِلَّائِهِمْ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ الْإِطْلَاقِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَدَمُ سُقُوطِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّا عَمِلْنَا بِالْحَدِيثَيْنِ فِيهَا فَأَوْجَبْنَاهَا بِسَبَبِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَلَمْ نَعْمَلْ بِالْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْيَمِينِ بَلْ عَمِلْنَا بِالْمُقَيِّدَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَمْلًا لِلْمُطَلَّقَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ النَّصَّيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَرَدَا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ بِالْيَمِينِ وَهُوَ فِي وُجُودِهِ أَعْنِي وُجُوبَهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ وَالْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلَوْ عَمِلْنَا بِالنَّصَّيْنِ يَلْزَمُ صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ ثَلَاثَةٍ بِالْمُطْلَقِ وَثَلَاثَةٍ بِالْمُقَيَّدِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُقَيَّدَ انْصَرَفَ مَا انْصَرَفَ إلَيْهِ الْآخَرُ وَأَوْجَبَ تَقْيِيدَ ذَلِكَ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ الصَّوْمُ مُقَيَّدًا لَمْ يَبْقَ مُطْلَقًا ضَرُورَةً فَأَمَّا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَأَحَدُ النَّصَّيْنِ جَعَلَ الرَّأْسَ الْمُطْلَقَ سَبَبًا وَالْآخَرُ جَعَلَ رَأْسَ الْمُسْلِمِ سَبَبًا وَلَا مُزَاحَمَةَ أَيْ لَا تَنَافِي فِي الْأَسْبَابِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ شَرْعًا وَحِسًّا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَالْمِلْكِ وَالْمَوْتِ وَإِذَا انْتَفَتْ الْمُزَاحَمَةُ وَجَبَ الْجَمْعُ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ التَّتَابُعَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ كَمَا أَوْجَبَ الْبَعْضُ بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤] مُتَتَابِعَةٌ مَعَ أَنَّ التَّقْيِيدَ وَالْإِطْلَاقَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ.

قُلْنَا: قِرَاءَتُهُ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ وَبِمِثْلِهَا لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ كَانَتْ مَشْهُورَةً إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى كَانَ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتْمًا عَلَى حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَخَتْمًا مِنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالزِّيَادَةُ عِنْدَنَا يَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَدَّى إلَى إلْغَاءِ الْمُقَيَّدِ فَإِنَّ حُكْمَهُ يُفْهَمُ مِنْ الْمُطْلَقِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يُسْتَفَادُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ كَمَا يُسْتَفَادُ حُكْمُ الْكَافِرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ فِي ذِكْرِ الْمُقَيَّدِ فَائِدَةٌ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: وُرُودُ الْمُقَيَّدِ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُطْلَقٌ وَبَعْدَ وُرُودِهِ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُقَيَّدٌ وَفِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَيَّدُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْفَضْلِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ عَزِيمَةٌ وَالْمُطْلَقَ رُخْصَةٌ وَيَجُوزُ ذَلِكَ مَتَى أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا جَمِيعًا وَاحْتِمَالُ الْفَائِدَةِ قَائِمٌ لَا يُجْعَلُ النَّصَّانِ نَصًّا وَاحِدًا كَيْفَ وَالْحَمْلُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ صِفَةِ الْإِطْلَاقِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَبْقَ مَعْمُولًا وَعَدَمُ الْحَمْلِ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ شَيْءٍ فَكَانَ أَوْلَى إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّكُمْ قَدْ حَمَلْتُمْ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيِّدِ فِي قَوْلِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>