لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مَا ثَبَتَتْ إلَّا صِيَانَةً لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ عَنْ فَسَادِ الْخَمْرِ وَنَفْسِهِ عَنْ الْمَيْتَةِ فَإِذَا خَافَ بِهِ فَوَاتَ نَفْسِهِ لَمْ يَسْتَقِمْ صِيَانَةُ الْبَعْضِ بِفَوَاتِ الْكُلِّ فَسَقَطَ الْمُحَرَّمُ وَكَانَ إسْقَاطًا لِحُرْمَتِهِ فَإِذَا صَبَرَ لَمْ يَصِرْ مُؤَدِّيًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مُضَيِّعًا دَمه إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
أَيْ فَمَنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَجَاعَةٍ غَيْرِ مَائِلٍ إلَى مَا يَؤُمُّهُ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ فَوْقَ سَدِّ الرَّمَقِ تَلَذُّذًا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يَغْفِرُ لَهُ مَا أَكَلَ مِمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ حِينَ اُضْطُرَّ إلَيْهِ. رَحِيمٌ بِأَوْلِيَائِهِ فِي الرُّخْصَةِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَدَلَّ إطْلَاقُ الْمَغْفِرَةِ عَلَى قِيَامِ الْحُرْمَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ رَحْمَةً عَلَى عِبَادَةِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ. وَبِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَاءٌ عَلَى صِفَاتٍ فِيهَا مِنْ الْخَبَثِ وَالضَّرَرِ، وَلَا تَنْعَدِمُ تِلْكَ الصِّفَاتُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَبَقِيَتْ مُحَرَّمَةً كَمَا كَانَتْ وَرُخِّصَ الْفِعْلُ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: ١١٩] .
فَاسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ، وَالْكَلَامُ الْمُقَيَّدُ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَقَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَتْ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا كَانَتْ.
وَهَذَا عَلَى مَذْهَبُ مَنْ جَعَلَ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا شَرْعًا فَيُقَالُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُحَرَّمَةٌ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ مُبَاحَةٌ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِالنَّصِّ أَيْضًا. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِثْنَاءُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: ١٠٦] . فَإِنَّهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ.؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْحَظْرِ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْغَضَبِ إذْ التَّقْدِيرُ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ فَيَنْتَفِي الْغَضَبُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا يَدُلُّ انْتِفَاؤُهُ عَلَى ثُبُوتِ الْحِلِّ. وَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ حُرْمَتَهُ أَيْ حُرْمَةَ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَنَحْوَهُمَا. مَا ثَبَتَتْ إلَّا صِيَانَةً لِعَقْلِهِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَدِينِهِ عَنْ الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِيهِ بِسَبَبِ الْخَمْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: ٩١] . وَنَفْسِهِ أَيْ بَدَنِهِ عَنْ تَعَدِّي خَبَثِ الْمَيْتَةِ وَنَظَائِرِهَا إلَيْهِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: ١٥٧] فَإِذَا خَافَ بِهِ أَيْ بِالِامْتِنَاعِ فَوَاتَ نَفْسِهِ لَمْ يَسْتَقِمْ صِيَانَةُ الْبَعْضِ بِفَوَاتِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ فِي فَوَاتِ الْكُلِّ فَوَاتَ الْبَعْضِ ضَرُورَةً.
فَسَقَطَ الْمُحَرَّمُ أَيْ مَعْنَى الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ صِيَانَةُ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ. فَكَانَ هَذَا أَيْ إطْلَاقُ الْفِعْلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إسْقَاطًا لِحُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَإِذَا صَبَرَ لَمْ يَصِرْ مُؤَدِّيًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ بَلْ صَارَ مُضَيِّعًا دَمَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحُرْمَةِ فَكَانَ آثِمًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَغَيْرِهِ مَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ دَخَلَ النَّارَ. إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الرُّخْصَةُ مِثْلَ سُقُوطِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ بَلْ كَانَتْ دُونَهُ فِي الْمَجَازِيَّةِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ سَاقِطَةٌ أَوْ بِقَوْلِهِ فَسَقَطَ الْمُحَرَّمُ، وَهُوَ بِمَعْنَى لَكِنْ. وَأَمَّا إطْلَاقُ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِبَاحَةِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاضْطِرَارَ الْمُرَخِّصَ لِلتَّنَاوُلِ يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ وَعَسَى يَقَعُ التَّنَاوُلُ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ سَدُّ الرَّمَقِ وَبَقَاءُ الْمُهْجَةِ إذْ مِثْلُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهَذِهِ الْمَخْمَصَةِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ هَذَا الِاضْطِرَارِ الْمُرَخِّصِ، وَالتَّنَاوُلُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ لِهَذَا التَّفَاوُتِ، وَفِي التَّيْسِيرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute