وَقَدْ تَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِي الْقَصْرِ بِيَقِينٍ فَلَا يَبْقَى الْإِكْمَالُ إلَّا مُؤْنَةً مَحْضَةً لَيْسَ فِيهَا فَضْلُ ثَوَابٍ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ فَالْقَصْرُ مَعَ مُؤْنَةِ السَّفَرِ مِثْلُ الْإِكْمَالِ كَقَصْرِ الْجُمُعَةِ مَعَ إكْمَالِ الظُّهْرِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ أَصْلًا
ــ
[كشف الأسرار]
أَيْ اعْتَقَدَهَا. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ وَجْهٍ فَالتَّصَدُّقُ بِهِ. وَتَمْلِيكُهُ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا مَحْضًا حَتَّى لَوْ قَالَ لِمَدْيُونِهِ تَصَدَّقْتُ بِالدَّيْنِ عَلَيْك أَوْ مَلَّكْتُكَهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَبِلَ أَوْ سَكَتَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ، وَإِنْ قَالَ لَا أَقْبَلَ يَرْتَدُّ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَدْيُونِ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ التَّصَدُّقُ بِهِ إسْقَاطًا مَحْضًا بَلْ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ تَعَلُّقُهُ بِالْحَظْرِ كَتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فَيُرَدُّ بِالرَّدِّ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ أَحَدُ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ يَقْبَلُهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِآخَرَ، وَهَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ لَك أَوْ مَلَّكْتُكَهُ أَوْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك إذَا صَدَرَ مِنْ الْعِبَادِ قَدْ يَقْبَلُ الرَّدَّ حَتَّى لَوْ قَالَ الْآخَرُ لَا أَقْبَلُ لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِذَا صَدَرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ لَا يُمْكِنُ رَدُّ مَا أَوْجَبَهُ، وَأَثْبَتَهُ سَوَاءٌ كَانَ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا مِثْلُ الْإِرْثِ فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْوَارِثِ فَإِذَا قَالَ لَا أَقْبَلُ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ.
وَالتَّمْلِيكُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ لَا يَقْبَلُهُ إذَا صَدَرَ مِنْ الْعِبَادِ لَا يَقْبَلُ الرَّدَّ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ، وَهَبْت مِلْكَ الطَّلَاقِ أَوْ النِّكَاحِ مِنْك أَوْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك أَوْ يَقُولُ وَلِيُّ الْقِصَاصِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَهَبْت الْقِصَاصَ لَك أَوْ مَلَّكْتُكَهُ أَوْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك فَتَطْلُقُ الْمَرْأَةُ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِسْقَاطُ وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَالتَّصَدُّقُ الصَّادِرُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، وَهُوَ شَطْرُ الصَّلَاةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْتَمِلَ الرَّدَّ، وَلَا يَتَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَنَّ التَّصْدِيقَ الْإِسْقَاطُ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْقَاطَ تَصَدُّقًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ٢٨٠] .
١ -
وَمِنْ الدَّلِيلِ مَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ تَامٌّ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ، وَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَقَدْ كَفَرَ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَنْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ. وَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَالْآخَرُ يَقْصُرُ عَنْ حَالِهِمَا فَقَالَ لِلَّذِي قَصَرَ أَنْتَ أَكْمَلْت وَقَالَ لِلْآخَرِ أَنْتَ قَصَرْت كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ كَالْمُقْصِرِ فِي الْحَضْرَةِ» . كَذَا أَوْرَدَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَأَسْنَدَهُ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ قَصْرُ الْأَحْوَالِ عَلَى مَا بَيَّنَ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ فَأَمَّا قَصْرُ الذَّاتِ فَثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ (قَوْلُهُ) وَقَدْ تَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِي الْقَصْرِ بِيَقِينٍ.
إذَا ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِي شَيْءٍ لِلْعَبْدِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الرُّخْصَةِ وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ يُسْرًا فَالْعَزِيمَةُ إمَّا إنْ تَضَمَّنَتْ فَضْلَ ثَوَابٍ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ تَضَمَّنَتْ ثَوَابَ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا إنْ تَضَمَّنَتْ يُسْرًا آخَرَ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الرُّخْصَةِ كَالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ تَضَمَّنَ يُسْرَ مُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلُ ثَوَابٍ، وَلَا نَوْعُ يُسْرٍ فَسَقَطَتْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالرُّخْصَةِ وَتَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِيهَا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِي الْقَصْرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute