بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ وَجَبَ بِالْأَمْرِ مَقْصُودًا بِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
أَوْ لِوَاحِدٍ انْقَضَتْ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ مُؤَجَّلَةٌ لَا بَأْسَ بِآجَالٍ مُتَسَاوِيَةٍ يَنْقَضِي جَمِيعُ الْآجَالِ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَمَّاهَا أَجَلًا، وَالْأَجَلُ مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ لِامْتِنَاعِ شَيْءٍ وُجِدَ سَبَبُهُ كَالْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الدُّيُونِ لِامْتِنَاعِ الْمُطَالَبَةِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهَا عَرَفْنَا أَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِامْتِنَاعِ حُكْمِ الطَّلَاقِ إلَى زَمَانِ انْقِضَائِهَا، وَحُكْمُ الطَّلَاقِ حِلُّ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ كَانَ حَرَّمَهَا عَلَى سَائِرِ الْأَزْوَاجِ وَحَرَّمَ عَلَيْهَا الْخُرُوجَ وَالْبُرُوزَ، وَالطَّلَاقُ شُرِعَ لِإِزَالَةِ مَا أَثْبَتَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ فَكَانَ حُكْمُهُ الْإِطْلَاقَ، وَإِزَالَةَ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ.
١ -
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَدْخَلَ الْأَجَلَ عَلَى حُكْمِهِ فَتَأَخَّرَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ إلَى انْقِضَائِهِ كَمَا تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَإِذَا تَأَخَّرَتْ حُكْمُهُ، وَهُوَ إزَالَةُ الْحُرُمَاتِ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي الْحَالِ كَمَا كَانَتْ فِي حَالَةِ النِّكَاحِ فَثَبَتَ أَنَّ الرُّكْنَ فِيهَا الْحُرُمَاتُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ رُكْنَ الْعِدَّةِ بِعِبَارَةِ النَّهْيِ فَقَالَ: {وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: ١] . وَقَالَ: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: ٢٣٥] . وَالثَّابِتُ بِالنَّهْيِ الْحُرْمَةُ إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً وَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ التَّرَبُّصُ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ لَا؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ لَكِنْ لِئَلَّا تُبَاشِرَ فِعْلًا حَرَامًا كَمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْكَفُّ عَنْ الزِّنَا إذَا دَعَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ لَا؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ إذْ الرُّكْنُ حُرْمَةُ الزِّنَا فِي نَفْسِهِ بَلْ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْحَرَامِ. ثُمَّ الْحُرُمَاتُ قَدْ تَجْتَمِعُ لِعَدَمِ التَّضَايُقِ فِيهَا كَصَيْدِ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ وَلِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، وَكَخَمْرِ الذِّمِّيِّ حَرَامٌ عَلَى الصَّائِمِ الَّذِي حَلَفَ لَا يَشْرَبُ خَمْرًا لِكَوْنِهَا خَمْرًا وَلِكَوْنِهَا لِلذِّمِّيِّ وَلِصَوْمِهِ وَلِيَمِينِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ حُرْمَةُ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ مُؤَجَّلَةً إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ بِسَبَبِ الزَّوْجِ حَقًّا لَهُ، وَإِنْ نُثْبِتَ بِسَبَبِ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ أَيْضًا حَقًّا لَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَنْتَهِي الْحُرْمَتَانِ بِانْقِضَاءِ مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ لِحُصُولِ مَقْصُودِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الْعِدَّةِ بِانْقِضَائِهَا، وَهُوَ الْعِلْمُ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مِائَةٍ كَمَنْ حَلَفَ مَرَّتَيْنِ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا لَزِمَهُ يَمِينَانِ، وَلَوْ حَنِثَ يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ ثُمَّ تَنْقَضِي الْيَمِينَانِ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَالْمَرْأَةِ تَحْرُمُ عَلَى أَزْوَاجٍ بِتَطْلِيقَاتٍ ثَلَاثٍ فَإِنَّ الْحُرُمَاتِ كُلَّهَا تَنْقَضِي بِإِصَابَةِ زَوْجٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ، وَهُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ ثَبَتَ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] .
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: ١٨٧] . وَالصَّوْمُ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَفِّ وَالْإِمْسَاكِ، وَأَنَّهُ فِعْلٌ وَالْمَرْءُ لَا يَتَّصِفُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِكَفَّيْنِ كَمَا لَا يَتَّصِفُ بِجُلُوسَيْنِ.، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّا مَتَى جَعَلْنَا الْوَاجِبَ كَفًّا عَلَى الْمَرْأَةِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالتَّزَوُّجِ ثُمَّ يَحْرُمُ الْخُرُوجُ وَالتَّزَوُّجُ ضَرُورَةَ الْكَفِّ لَمْ يَكُنْ الْخُرُوجُ، وَلَا النِّكَاحُ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَرُمَ لِغَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ كَفًّا لَمْ يَكُنْ الْأَكْلُ، وَلَا الشُّرْبُ، وَلَا جِمَاعُ الْأَهْلِ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا فَعَلَ لَا يَأْثَمُ إثْمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْحَرَامِ وَالْجِمَاعِ الْحَرَامِ مِثْلُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ إثْمَ إفْسَادِ الصَّوْمِ حَتَّى كَانَ إثْمُ الْكُلِّ وَاحِدًا، وَهَاهُنَا تَأْثَمُ الْمَرْأَةُ إثْمَ الْخُرُوجِ الْحَرَامِ، وَإِثْمَ الْجِمَاعِ الْحَرَامِ إذَا تَزَوَّجَتْ وَجُومِعَتْ حَتَّى وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى أَصْلِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْحَرَامَ هُوَ الْفِعْلُ نَفْسُهُ وَعَلَيْهَا عَنْ الْفِعْلِ الْحَرَامِ، وَإِذَا لَمْ تَكْفِ لَمْ تَأْثَمْ إثْمَ تَارِكِ الْكَشْفِ فَهَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ وَالرُّكْنَ حُرْمَةُ أَفْعَالٍ لَا كَفٍّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute