فَأَمَّا أَخْبَارُ زَرَادُشْتَ فَتَخْيِيلٌ كُلُّهُ فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَدْخَلَ قَوَائِمَ الْفَرَسِ فِي بَطْنِ الْفَرَسِ فَإِنَّمَا رَوَوْا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ الْمَلِكِ وَحَاشِيَتِهِ وَذَلِكَ آيَةُ الْوَضْعِ وَالِاخْتِرَاعِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ لَمَّا رَأَى شَهَامَتَهُ تَابَعَهُ عَلَى التَّزْوِيرِ وَالِاخْتِرَاعِ فَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ لِغَفْلَةِ الْمُتَأَمِّلِ دُونَ صِحَّةِ الدَّلِيلِ
ــ
[كشف الأسرار]
غَيْرُ مُنْقَطِعٍ بِمَا ذَكَرْتُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تُصُوِّرَ مِنْهُمْ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الصِّدْقِ وَصُحْبَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ تَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ، وَكَثْرَتِهِمْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الِاخْتِرَاعُ أَيْضًا. فَقَالَ لَوْ تُصُوِّرَ الِاخْتِرَاعُ مِنْهُمْ لَمْ يُتَصَوَّرْ خَفَاؤُهُ وَعَدَمُ ظُهُورِهِ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ وَالْمُعَانِدِينَ فِيهِمْ لِدَعْوَةِ الطِّبَاعِ إلَى إفْشَاءِ الْأَسْرَارِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ عَنْ سِرِّهِ حَتَّى يُفْشِيَهُ إلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَكْتِمَهُ ثُمَّ السَّامِعُ يُفْشِيَهُ إلَى غَيْرِهِ فَيَصِيرَ ظَاهِرًا عَنْ قَرِيبٍ فَلَوْ كَانَ هُنَا اخْتِرَاعٌ لَظَهَرَ ذَلِكَ خُصُوصًا عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ. وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ تَصَوُّرَ احْتِمَالِ الْخَفَاءِ مُنْقَطِعٌ.
صَارَ الْقُرْآنُ مُعْجِزَةً أَيْ تَحَقَّقَ وَظَهَرَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا؛ لِأَنَّ إعْجَازَهُ تَوَقَّفَ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهِ لَأَتَوْا بِهِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ فِي مَحَافِلِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَمَا اشْتَغَلُوا بِبَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَوْ أَتَوْا بِهِ لَمَا خَفِيَ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَبَاعُدِ الزَّمَانِ كَمَا لَمْ تَخْفَ خُرَافَاتُ مُسَيْلِمَةَ، وَهَذَيَانَاتُ الْمُتَنَبِّئِينَ قَاطِعًا احْتِمَالَ الْوَضْعِ أَيْ احْتِمَالَ الِاخْتِرَاعِ وَالتَّقَوُّلِ، وَذَلِكَ أَيْ انْقِطَاعُ احْتِمَالِ الِاخْتِرَاعِ. الْمُتَعَنِّتِينَ أَيْ الطَّالِبِينَ لِمَعَايِبِ الْإِسْلَامِ يُقَالُ جَاءَنِي فُلَانٌ مُتَعَنِّتًا إذَا جَاءَ يَطْلُبُ زَلَّتَكَ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا أَخْبَارُ زَرَادُشْتَ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِنَقْلِ الْمَجُوسِ قِصَّةَ زَرَادُشْتَ بِالتَّوَاتُرِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَا نَقَلَ الْمَجُوسُ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ مِثْلُ عَدَمِ تَضَرُّرِهِ بِوَضْعِ طَسْتٍ مِنْ نَارٍ عَلَى صَدْرِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمُشَعْوِذِينَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَعَدَمُ تَضَرُّرِهِ بِالنَّارِ مِنْ بَابِ خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ لَا مِنْ بَابِ الْإِعْجَازِ فَأَنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْمُشَعْوِذِينَ يَلْعَبُونَ بِالنَّارِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِهِمْ، وَمِثْلُهُ فِي مَلَاعِبِهِمْ وَشَعْوَذَتِهِمْ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَدْخَلَ قَوَائِمَ الْفَرَسِ فِي بَطْنِ الْفَرَسِ فَبَقِيَ مُعَلَّقًا فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَرْطُ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ؛ لِأَنَّهُمْ رَوَوْا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ الْمَلِكِ وَحَاشِيَتِهِ أَيْ صِغَارِ قَوْمِهِ لَا فِي كِبَارِهِمْ وَلَا فِي الْأَسْوَاقِ، وَمَجَامِعِ النَّاسِ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْمِ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوَاتُرُ، وَلَا حَقِيقَةُ دَعْوَاهُ، إلَّا أَنَّ أَيْ: لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ، وَهُوَ كشتاسب لَمَّا رَأَى شَهَامَتَهُ أَيْ دَهَاءَهُ وَذَكَاءَهُ تَابَعَهُ عَلَى التَّزْوِيرِ وَالِاخْتِرَاعِ وَوَاطَأَهُ عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيَجْعَلَهُ أَحَدَ أَرْكَانِ مَمْلَكَتِهِ لِيَدْعُوَ النَّاسَ إلَى تَعْظِيمِ الْمُلُوكِ وَتَحْسِينِ أَفْعَالِهِمْ، وَمُرَاعَاةِ حُقُوقِهِمْ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَيَكُونُ الْمَلِكُ مِنْ وَرَائِهِ بِالسَّيْفِ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُوَاطَأَةِ حَاجَتُهُ إلَيْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ قَدِيمٌ فِي الْمُلْكِ، وَكَانَ النَّاسُ لَا يُعَظِّمُونَهُ فَاحْتَالُوا بِهَذِهِ الْحِيلَةِ ثُمَّ نَقَلُوا عَنْهُ أُمُورًا لَا أَصْلَ لَهَا تَرْوِيجًا لِأَمْرِهِ وَتَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمِلْكِ.
وَقَدْ سَمِعْتُ عَنْ بَعْضِ الثِّقَاتِ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَلِكِ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ، وَقَدْ شَغَفَ بِهَا الْمَلِكُ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لَكِنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ انْقِلَابِ الرَّعِيَّةِ وَالْمُلْكِ وَاحْتِرَازًا عَنْ الْمَلَامَةِ فَتَفَرَّسَ زَرَادُشْتُ اللَّعِينُ مِنْهُ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَبَاحَ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ فَوَافَقَ ذَلِكَ رَأْيَ الْمَلِكِ فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِمُتَابَعَتِهِ فَفَشَا أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَنَقَلُوا عَنْهُ أُمُورًا كُلُّهَا كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهَا.
وَالثَّانِي أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمَ جَدَلٍ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute