وَلِأَنَّ الْوَصْفَ فِي النَّصِّ كَالْخَبَرِ، وَالرَّأْيُ وَالنَّظَرُ فِيهِ كَالسَّمَاعِ، وَالْقِيَاسُ عَمَلٌ بِهِ وَالْوَصْفُ سَاكِتٌ عَنْ الْبَيَانِ وَالْخَبَرُ بَيَانُ نَفْسِهِ فَكَانَ الْخَبَرُ فَوْقَ الْوَصْفِ فِي الْإِبَانَةِ، وَالسَّمَاعُ فَوْقَ الرَّأْيِ فِي الْإِصَابَةِ.
وَلِهَذَا قَدَّمْنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ عَلَى التَّحَرِّي فِي الْقِبْلَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّحَرِّي مَعَهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْفِقْهِ وَلَكِنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ مِثْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ عُمِلَ بِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يُتْرَكْ إلَّا بِالضَّرُورَةِ وَانْسِدَادِ بَابِ الرَّأْيِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ ضَبْطَ حَدِيثِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَظِيمُ الْخَطَرِ وَقَدْ كَانَ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى مُسْتَفِيضًا فِيهِمْ فَإِذَا قَصُرَ فِقْهُ الرَّاوِي عَنْ دَرْكِ مَعَانِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِحَاطَتِهَا لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ أَنْ يَذْهَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَعَانِيهِ بِنَقْلِهِ فَيَدْخُلُهُ شُبْهَةٌ زَائِدَةٌ يَخْلُو عَنْهَا الْقِيَاسُ فَيُحْتَاطُ فِي مِثْلِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
بِعَارِضِ النَّقْلِ وَتَخَلُّلِ الْوَاسِطَةِ وَاحْتِمَالِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِيهِ عَارِضًا وَالِاحْتِمَالُ الْأَصْلِيُّ أَقْوَى مِنْ الِاحْتِمَالِ الْعَارِضِ فَلِهَذَا كَانَ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْخَبَرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ ثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْأُولَى ظَنِّيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ يَقِينِيَّتَانِ فَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِالْقِيَاسِ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِأَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ أَوْ خَمْسٍ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ.
وَكَوْنِهِ مُعَلَّلًا بِالْعِلَّةِ الْفُلَانِيَّةِ وَحُصُولِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ فِي الْفَرْعِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْأُولَى وَالْخَامِسَةُ يَقِينِيَّتَانِ، وَالْبَوَاقِي ظَنِّيَّةٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ أَقَلَّ ظَنًّا مِنْ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ رَاجِحًا، قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْوَصْفَ فِي النَّصِّ كَالْخَبَرِ) أَيْ الْوَصْفُ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُجْتَهِدُ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَيْهِ كَالْخَبَرِ وَالنَّظَرُ فِيهِ أَيْ التَّأَمُّلُ وَالْوُقُوفُ عَلَى تَأْثِيرِهِ بِمَنْزِلَةِ سَمَاعِ الْخَبَرِ مِنْ الرَّاوِي وَالْقِيَاسُ عَمَلٌ بِهِ أَيْ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِوَسَاطَتِهِ إلَى الْفَرْعِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ.
وَالْوَصْفُ سَاكِتٌ عَنْ الْبَيَانِ أَيْ عَنْ إثْبَاتِ الْمُدَّعَى نَصًّا؛ لِأَنَّ الْقَايِسَ إنَّمَا جَعَلَهُ شَاهِدًا عَلَى الْحُكْمِ بِضَرْبِ إشَارَةٍ مِنْ الشَّرْعِ وَالْخَبَرُ بَيَانُ نَفْسِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ نَاطِقٌ بِالْحُكْمِ فَكَانَ أَقْوَى مِنْ الْوَصْفِ فِي الْإِبَانَةِ أَيْ فِي إظْهَارِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتِهِ، وَالسَّمَاعُ فَوْقَ الرَّأْيِ فِي الْإِصَابَةِ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلِاحْتِمَالِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ حِسًّا، وَالْغَلَطُ لَا يَجْرِي فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّأْيُ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ وَأَمَّا مَا تَمَسّك الْخَصْمُ بِهِ مِنْ رَدِّ الصَّحَابَةِ الْخَبَرَ بِالْقِيَاسِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ رَدُّوهُ لِعَدَمِ فِقْهِ الرَّاوِي أَوْ لَمَعَانٍ عَارِضَةٍ ذَكَرْنَاهَا وَنَذْكُرُهَا أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي اتِّصَالِ خَبَرِ الْوَاحِدِ شُبْهَةٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا وَالشُّبْهَةُ فِي الْقِيَاسِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ وَقَوْلُهُ لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ وَالسَّهْوِ مَدْخَلٌ فِي الْخَبَرِ دُونَ الْقِيَاسِ مُعَارَضٌ بِأَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ الْحُكْمِ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِالْوَصْفِ الْمُسْتَنْبَطِ ثَابِتٌ فِي الْقِيَاسِ دُونَ الْخَبَرِ وَقَوْلُهُ الْخَبَرُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّخْصِيصِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَحْتَمِلُهُ قُلْنَا: الْكَلَامُ فِي خَبَرٍ يَرِدُ وَيُخَالِفُهُ الْقِيَاسُ وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا احْتِمَالَ، قَوْلُهُ (فَإِنْ وَافَقَ) أَيْ خَبَرُ مَنْ عُرِفَ بِالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ دُونَ الْفِقْهِ الْقِيَاسَ عُمِلَ بِهِ أَيْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ لَمْ يُتْرَكْ الْخَبَرُ إلَّا بِالضَّرُورَةِ وَانْسِدَادِ بَابِ الرَّأْيِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِقِيَاسٍ مُخَالِفًا لِقِيَاسٍ آخَرَ لَمْ يُتْرَكْ الْحَدِيثُ بِخِلَافِ خَبَرِ الْمَجْهُولِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقِيَاسٍ مُخَالِفًا لِآخَرَ جَازَ تَرْكُهُ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ فَوَائِدِ هَذَا الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ وَانْسِدَادِ بَابِ الرَّأْيِ تَفْسِيرٌ لِلضَّرُورَةِ وَفِي قَوْلِهِ لَمْ يُتْرَكْ إلَّا بِالضَّرُورَةِ لُطْفٌ وَرِعَايَةُ أَدَبٍ كَمَا تَرَى وَوَجْهُ ذَلِكَ أَيْ وَجْهُ عَدَمِ الْقَبُولِ عِنْدَ انْسِدَادِ بَابِ الرَّأْيِ أَنَّ ضَبْطَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَظِيمُ الْخَطَرِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لَهُ اخْتِصَارًا كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْوُقُوفُ عَلَى كُلِّ مَعْنًى ضَمَّنَهُ فِي كَلَامِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ؛ وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَةُ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرُو بْنِ مَيْمُونَ أَنَّهُ قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute