للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَإِنَّ تَفْسِيرَهَا الِاسْتِقَامَةُ يُقَالُ طَرِيقٌ عَدْلٌ لِلْجَادَّةِ وَجَائِرٌ لِلْبُنَيَّاتِ وَهِيَ نَوْعَانِ أَيْضًا: قَاصِرٌ وَكَامِلٌ أَمَّا الْقَاصِرُ فَمَا ثَبَتَ مِنْهُ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ وَاعْتِدَالِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ حَالَةُ الِاسْتِقَامَةِ لَكِنْ هَذَا الْأَصْلُ لَا يُفَارِقُهُ هَوًى يُضِلُّهُ وَيَصُدُّهُ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ وَلَيْسَ الْكَمَالُ إلَّا اسْتِقَامَةَ حَدٍّ يُدْرَكُ مَدَاهُ؛ لِأَنَّهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ يَتَفَاوَتُ فَاعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَتَضْيِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ رُجْحَانُ جِهَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ عَلَى طَرِيقِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ فَقِيلَ: مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَصَارَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى مَا دُونَ الْكَبِيرَةِ كَانَ مِثْلَهَا فِي وُقُوعِ التُّهْمَةِ وَجَرْحِ الْعَدَالَةِ فَأَمَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ فَعَدْلٌ كَامِلُ الْعَدَالَةِ وَخَبَرُهُ حُجَّةٌ فِي إقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الْعَدَالَةِ يَنْصَرِفُ إلَى أَكْمَلِ الْوَجْهَيْنِ

ــ

[كشف الأسرار]

قَوْلُهُ (أَمَّا الْعَدَالَةُ فَكَذَا) هِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ ضِدِّ الْجَوْرِ وَهُوَ اتِّصَافُ الْغَيْرِ بِفِعْلِ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَتَرْكِ مَا يَجِبُ لَهُ تَرْكُهُ، وَعَنْ الِاسْتِقَامَةِ يُقَالُ فُلَانٌ عَادِلٌ أَيْ مُسْتَقِيمُ السِّيرَةِ فِي الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَيُقَالُ لِلْجَادَّةِ طَرِيقٌ عَادِلٌ لِاسْتِقَامَتِهَا وَجَائِرٌ لِلْبُنَيَّاتِ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَهِيَ الطُّرُقُ الْحَادِثَةُ مِنْ الْجَادَّةِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَالدِّينِ وَضِدُّهَا الْفِسْقُ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ وَفَسَّرَهَا الْبَعْضُ بِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ أَهْلِيَّةِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِقَامَةِ السِّيرَةِ وَالدِّينِ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلَى هَيْئَةٍ رَاسِخَةٍ فِي النَّفْسِ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ جَمِيعًا حَتَّى يَحْصُلَ ثِقَةُ النُّفُوسِ بِصِدْقِهِ فَلَا ثِقَةَ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ خَوْفًا وَازِعًا عَنْ الْكَذِبِ.

أَمَّا الْقَاصِرُ فَمَا ثَبَتَ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْعَدَالَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ وَاعْتِدَالِ الْعَقْلِ مَعَ السَّلَامَةِ عَنْ فِسْقٍ ظَاهِرٍ فَإِنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِهِمَا فَهُوَ عَدْلٌ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُمَا يَحْمِلَانِهِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَيَزْجُرَانِهِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالْخُرُوجِ عَنْ حَدِّ الشَّرِيعَةِ وَبِهَذِهِ الْعَدَالَةِ لَا يَصِيرُ الْخَبَرُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ عَارَضَهُ ظَاهِرٌ مِثْلُهُ وَهُوَ هَوَى النَّفْسِ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ قَبْلَ الْعَقْلِ وَحِينَ رُزِقَ الْعَقْلَ وَالنُّهَى مَا زَايَلَهُ الْهَوَى وَأَنَّهُ دَاعٍ إلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَكَانَ عَدْلًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَالْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ عَاقِلَانِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَتَرَدَّدَ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ فَشُرِطَ كَمَالُ الْعَدَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُجَانِبًا لِمَحْظُورِ دِينِهِ لِيَثْبُتَ رُجْحَانُ دَلِيلِ الْعَقْلِ عَلَى الْهَوَى فَيَتَرَجَّحُ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ وَلَا يُفَارِقُهُ هَوًى يُضِلُّهُ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: ٢٦] .

وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ لِكَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ بَيَانُ النَّوْعِ الثَّانِي كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْكَامِلُ مِنْ الِاسْتِقَامَةِ بِالِانْزِجَارِ عَنْ الْمَعَاصِي إلَّا أَنَّ هَذَا كَمَالٌ لَا يُدْرَكُ مَدَاهُ أَيْ غَايَتُهُ فَاعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي كَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ مَا لَا يُؤَدِّي اعْتِبَارُهُ إلَى الْحَرَجِ وَتَضْيِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ أَيْ أَحْكَامِهَا فَاشْتُرِطَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَبَائِرِ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ حَتَّى لَوْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً تُبْطِلُ عَدَالَتَهُ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ ارْتَكَبَ صَغِيرَةً وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا لَا تَبْطُلُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا إلَّا أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ جَمِيعِ الصَّغَائِرِ مُتَعَذِّرٌ عَادَةً فَإِنَّ غَيْرَ الْمَعْصُومِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الزَّلَّاتِ جَمِيعًا فَاشْتِرَاطُ التَّحَرُّزِ عَنْ جَمِيعِهَا لِإِثْبَاتِ الْعَدَالَةِ حِينَئِذٍ إلَّا نَادِرًا فَسَقَطَ فَأَمَّا الِاجْتِنَابُ عَنْ الْكَبَائِرِ وَعَنْ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ فَغَيْرُ مُتَعَذِّرٍ فَلَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا وَاضْطَرَبَتْ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ فِي الْكَبَائِرِ فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْكَبَائِرُ تِسْعٌ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ. وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالْفِرَارُ عَنْ الزَّحْفِ وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَالْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ» أَيْ الظُّلْمُ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ: مِنْ أَلْحَدَ الرَّجُلُ إذَا ظَلَمَ فِي الْحَرَمِ.

وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ ذَلِكَ أَكْلُ الرِّبَا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَضَافَ إلَى ذَلِكَ السَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَقِيلَ مَا خَصَّهُ الشَّارِعُ بِالذِّكْرِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُسْتَصْفَى لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعِصْمَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَلَا يَكْفِي أَيْضًا اجْتِنَابُ

<<  <  ج: ص:  >  >>