وَكَذَلِكَ مَا خَالَفَ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ فَوْقَهُ فَلَا يُنْسَخُ بِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَشْهُورَ، وَهُوَ قَوْلُهُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
ــ
[كشف الأسرار]
مُسْلِمَيْنِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ إلَى اسْتِشْهَادِ كَافِرَيْنِ حِينَ كَانَتْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: ١٠٦] أَيْ عَدَدُ الشُّهُودِ فِيمَا بَيْنَكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ إنْ لَمْ يَجِدُوا مُسْلِمِينَ وَأَوْ لِلتَّرْتِيبِ، كَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ حُجَّةً لَنُقِلَ الْحُكْمُ إلَيْهِ لَا إلَى شَهَادَةِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ تَجْوِيزَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ دَفْعُهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ وَأَيْسَرُ وُجُودًا مِنْهَا فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ الْحُكْمَ عِنْدَ وُقُوعِ الِارْتِيَابِ وَالشَّكِّ فِي صِدْقِ الشَّاهِدِ إلَى تَحْلِيفِ الشَّاهِدِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [المائدة: ١٠٦] الْآيَةُ وَتَحْلِيفُ الشَّاهِدِ حِينَئِذٍ كَانَ مَشْرُوعًا ثُمَّ نُسِخَ، وَلَوْ كَانَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ حُجَّةً لَكَانَ النَّقْلُ إلَيْهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ إذْ الْيَمِينُ الْمَشْرُوعَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ وَالْمُدَّعِي يُشْبِهُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَصْمٌ وَتَحْلِيفُهُ فِي الْجُمْلَةِ مَشْرُوعٌ أَيْضًا كَمَا فِي التَّحَالُفِ وَكَمَا فِي الْقَسَامَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَعْضِ، فَأَمَّا يَمِينُ الشَّاهِدِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْأَمِينِ فِي مَوْضِعٍ فَكَانَ النَّقْلُ إلَى يَمِينِ الشَّاهِدِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ.
وَأَمْثَالُ هَذَا أَيْ نَظَائِرُ مَا وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ مِنْ السُّنَنِ الْغَرِيبَةِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ خَبَرِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَخَبَرِ وُجُوبِ الْمُلْتَجِئِي إلَى الْحَرَمِ وَخَبَرِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ وَسَائِرِ مَا مَرَّ بَيَانُهُ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ مَا خَالَفَ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَيْضًا) أَيْ وَمِثْلُ الْخَبَرِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِلسُّنَّةِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مَرْدُودًا أَيْضًا وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ أَيْ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ فَوْقَ خَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِالْمَشْهُورِ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ الْمَشْهُورُ الَّذِي هُوَ أَقْوَى بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ وَذَلِكَ أَيْ مِثَالُ هَذَا الْأَصْلِ حَدِيثُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَبَيَانُ الْمُخَالَفَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ اللَّامَ يَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ فَمَنْ جَعَلَ يَمِينَ الْمُدَّعِي حُجَّةً فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ، وَهُوَ الِاسْتِغْرَاقُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْخُصُومَ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا مُدَّعِيًا وَقِسْمًا مُنْكِرًا، وَالْحُجَّةُ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا بَيِّنَةً وَقِسْمًا يَمِينًا، وَحَصَرَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَجِنْسَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَهَذَا يَقْتَضِي قَطْعَ الشَّرِكَةِ وَعَدَمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْبَيِّنَةِ فِي جَانِبٍ وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ تُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ هَذَا الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا.
كَيْفَ وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ حَتَّى قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ أَوَّلُ مَنْ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ مُعَاوِيَةُ وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ مُعَاوِيَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute