قَالَ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنِّي مَقَالَةً فَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصٌ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ سَابِقٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ فَلَا يُؤْمَنُ فِي النَّقْلِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ،
ــ
[كشف الأسرار]
مَا يَقْرَؤُهُ لَفْظُهُ حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مُحَاكِيًا وَمُطَابِقًا لِلَّفْظِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ إذَا كَانَ لَفْظُ الرَّاوِي مُحَاكِيًا لِلَفْظِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُقَالُ هَذَا حَدِيثُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنَقَلَهُ بِلَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَفْظُ الرَّاوِي حَقِيقَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ مُحَاكِيًا لِلَفْظِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ كَانَ مُطَابِقًا لِمَعْنَاهُ يُقَالُ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى وَعَلَى هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كُلِّ كَلَامٍ.
ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ نَقْلَ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ أَوْلَى فَأَمَّا نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ عَارِفًا بِدَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مَعَ شَرَائِطَ أُخَرَ سَنُبَيِّنُهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِحَالٍ وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» حَثَّ عَلَى الْأَدَاءِ كَمَا سَمِعَ وَذَلِكَ بِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ الْمَسْمُوعِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً» حَسَّنَ وَجْهَهُ مِنْ حَدٍّ دَخَلَ وَزَادَ فِي جَاهِهِ وَقَدَّرَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَيُرْوَى نَضَّرَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ نَعَّمَهُ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَالِ مَعْنَى الْحَدِيثِ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي إدْرَاكِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْوَاحِدِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» وَلِهَذَا يَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ عَلَى مَعْنًى لَا يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ صَادَفْنَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَتَنَبَّهُ فِي آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ لِفَوَائِدَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا أَهْلُ الْأَعْصَارِ السَّالِفَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَقِفَ السَّامِعُ عَلَى جَمِيعِ فَوَائِدِ اللَّفْظِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا ذَكِيًّا مَعَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَكَانَ أَفْصَحَ الْعَرَبِ لِسَانًا وَأَحْسَنَهَا بَيَانًا فَلَوْ جَوَّزْنَا النَّقْلَ بِالْمَعْنَى رُبَّمَا حَصَلَ التَّفَاوُتُ الْعَظِيمُ مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ تَبْدِيلُ لَفْظِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِلَفْظٍ آخَرَ لَجَازَ تَبْدِيلُ لَفْظِ الرَّاوِي أَيْضًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ فِي لَفْظِ غَيْرِ الشَّارِعِ أَيْسَرُ مِنْهُ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ وَلَجَازَ ذَلِكَ فِي الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ اجْتَهَدَ فِي تَطْبِيقِ التَّرْجَمَةِ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ تَفَاوُتٍ وَإِنْ قَلَّ، فَإِذَا تَوَالَتْ هَذِهِ التَّفَاوُتَاتُ كَانَ التَّفَاوُتُ الْآخِرُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ الْآخِرِ مُنَاسَبَةٌ.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى ثَعْلَبٍ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ وَيَقُولُ إنَّ عَامَّةَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَهَا نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ إذَا تَحَقَّقْتَهَا وَجَدْت كُلَّ لَفْظَةٍ مِنْهَا مُخْتَصَّةً بِشَيْءٍ لَا يُشَارِكُهَا صَاحِبَتُهَا فِيهِ فَمَنْ جَوَّزَ الْعِبَارَةَ بِبَعْضِهَا عَنْ الْبَعْضِ لَمْ يَسْلَمْ عَنْ الزَّيْغِ عَنْ الْمُرَادِ وَالذَّهَابِ عَنْهُ، وَمَعْنَى تَخْصِيصِ الشَّيْخِ إيَّاهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ وَأَظُنُّهُ أَيْ أَظُنُّ هَذَا الْقَوْلَ اخْتِيَارَ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِاسْتِخْرَاجِ هَذَا الدَّلِيلِ، وَالتَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ فِي قَوْلِهِ فَلَا يُؤْمَنُ فِي النَّقْلِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ التَّغْيِيرُ، وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ فِي تَجْوِيزِهِ فِي الْجُمْلَةِ أَيْ فِي تَجْوِيزِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَلَى الْخُصُوصِ لَا فِي تَجْوِيزِهِ عَلَى الْعُمُومِ مِمَّا رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ اللَّيْثِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا لَهُ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَنَسْمَعُ مِنْك الْحَدِيثَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى تَأْدِيَتِهِ كَمَا سَمِعْنَاهُ مِنْك
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute