وَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَضْعُ الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَاحِدٌ يُصِيبُهُ الْمُجْتَهِدُ مَرَّةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْجُورًا عَلَى عَمَلِهِ وَجَبَ التَّخْيِيرُ لِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ نَفْسِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِاخْتِصَاصِ الْقَلْبِ بِنُورِ الْفِرَاسَةِ.
وَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَجَهْلٌ مَحْضٌ بِلَا شُبْهَةٍ
ــ
[كشف الأسرار]
إذَا احْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى الْعَمَلِ يَتَوَقَّفُ فِيهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ، وَلِهَذَا صَارَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلَانِ وَأَقْوَالٌ وَأَمَّا الرِّوَايَتَانِ اللَّتَانِ رُوِيَتَا عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّمَا كَانَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِحْدَاهُمَا صَحِيحَةٌ وَالْأُخْرَى فَاسِدَةٌ وَلَكِنْ لَمْ تُعْرَفْ الْأَخِيرَةُ مِنْهُمَا كَالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِوَايَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ قَالَهُمَا فِي زَمَانَيْنِ وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ السَّابِقُ مِنْ اللَّاحِقِ كَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ، فَصَارَ حَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّعَارُضَ يَجْرِي بَيْنَ النَّصَّيْنِ اللَّذَيْنِ يَتَحَقَّقُ النَّسْخُ فِيهِمَا وَلَا يَجْرِي بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ بَلْ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ فَأَقَامَ الشَّيْخُ دَلِيلًا عَلَى الْحَاصِلِ فَقَالَ لِأَنَّ تَعَارُضَ النَّصَّيْنِ كَذَا.
وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ النَّصَّيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ إلَّا وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مَنْسُوخٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لَكِنَّا جَهِلْنَاهُ وَالْجَهْلُ لَا يَصِيرُ عَمَلًا شَرْعِيًّا وَالِاخْتِيَارُ عَمَلٌ شَرْعِيٌّ وَأَمَّا الْقِيَاسَانِ فَيَتَعَارَضَانِ عَلَى طَرِيقِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ حُجَّةً يُعْمَلُ بِهِ أَصَابَ الْمُجْتَهِدُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَخْطَأَهُ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ كَمَا فِي أَجْنَاسِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْفِيرُ. قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَإِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسَانِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ لَكِنْ كِلَاهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ إصَابَةِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ وَالْقِيَاسُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ نُورٌ يُدْرِكُ بِهِ مَا هُوَ بَاطِنٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» وَإِصَابَةُ الْحَقِّ غَيْبٌ فَتَصْلُحُ شَهَادَةُ الْقَلْبِ حُجَّةً فِي ذَلِكَ فَيَعْمَلُ بِمَا شَهِدَ بِهِ قَلْبُهُ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ دُونَ الْإِصَابَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا حُجَّتَانِ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ صَارَا مُتَعَارِضَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْقُطَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا خَطَأٌ وَالْآخَرَ صَوَابٌ وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا الصَّوَابُ كَمَا فِي النَّصَّيْنِ فَمِنْ وَجْهٍ يَسْقُطُ وَمِنْ وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ فَقُلْنَا يَحْكُمُ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَيَعْمَلُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ.
قَوْلُهُ (فَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) أَيْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. (لِأَنَّ ذَلِكَ) : أَيْ الْقِيَاسَ. (وَضْعُ الشَّرْعِ) : أَيْ دَلِيلٌ وَضَعَهُ الشَّرْعُ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ وَقَعَ خَطَأً فَإِنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ الْقِيَاسَ بِطَرِيقِهِ وَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْمَنْصُوصِ وَيُبَيِّنَ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ وَيُحَافَظَ شَرَائِطَهُ فَيَكُونَ كُلُّ قِيَاسٍ صَحِيحًا بِوَضْعِ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ التَّعَارُضُ بِنَاءً عَلَى الْجَهْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ أَيْ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَقِيقَةً وَوُقُوعِ الْعِلْمِ فَلَا أَيْ لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ طَرِيقًا إلَيْهِ فَيَكُونُ سَبَبَ التَّعَارُضِ الْجَهْلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. إلَّا أَنَّهُ: أَيْ لَكِنَّ الْقَايِسَ لَمَّا كَانَ مَأْجُورًا عَلَى عَمَلِهِ أَيْ اجْتِهَادِهِ أَخْطَأَ الْحَقَّ أَوْ أَصَابَ وَجَبَ التَّخْيِيرُ أَيْ الْحُكْمُ بِالتَّخْيِيرِ لِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ: أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ طَلَبًا لِلْحَقِّ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِأَحَدِهِمَا بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute