للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

مَا يَنْفِيهِ الْآخَرُ بِالتَّحْقِيقِ التَّدَافُعِ وَالتَّمَانُعِ فَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ بِأَنْ يَنْفِيَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ لَا يَثْبُتُ التَّدَافُعُ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ فِي كُلِّ يَمِينٍ مَكْسُوبَةٍ بِالْقَلْبِ أَيْ مَقْصُودَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مَعْقُودَةً أَوْ غَيْرَ مَعْقُودَةٍ فَيَتَحَقَّقُ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْغَمُوسِ، وَقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: ٨٩] يَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ مَعْقُودَةٌ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ، وَلَغْوٌ لَا مُؤَاخَذَةَ فِيهِ، وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْمَعْقُودَةِ وَنَفْيِهَا عَنْ اللَّغْوِ، وَالْغَمُوسُ لَيْسَتْ بِمَعْقُودَةٍ فَكَانَتْ لَغْوًا فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ إذْ اللَّغْوُ اسْمٌ لِكَلَامٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَيْسَتْ فِي الْغَمُوسِ فَائِدَةُ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ لِأَنَّهَا ثُلُثٌ خَلَتْ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِتَحْقِيقِ الْبِرِّ أَوْ الصِّدْقِ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ فِي الْغَمُوسِ أَصْلًا فَكَانَتْ لَغْوًا أَيْ كَلَامًا لَا عِبْرَةَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ لِحُكْمِهِ كَبَيْعِ الْحُرِّ فَكَانَتْ الْغَمُوسُ دَاخِلَةً فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَالْغَمُوسُ دَاخِلٌ فِي هَذَا اللَّغْوِ أَيْ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَائِدَةِ.

وَلَمْ يَقُلْ دَاخِلَةً لِتَأْوِيلِ الْغَمُوسِ بِالْحَلِفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فِي حَقِّ الْغَمُوسِ إذْ الْأُولَى تُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا وَالثَّانِيَةُ تَنْفِيهَا عَنْهَا، فَيَتَخَلَّصُ عَنْهُ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ بِأَنْ يُقَالَ الْمُؤَاخَذَةُ الْمُثْبَتَةُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] ، مُطْلَقَةٌ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهَا الْمُؤَاخَذَةُ الْكَامِلَةُ فَإِنَّ الْآخِرَةَ خُلِقَتْ لِلْجَزَاءِ وَلِلْمُؤَاخَذَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَدْلِ فَأَمَّا الدُّنْيَا فَدَارُ ابْتِلَاءٍ يُؤَاخِذُ الْمُطِيعَ فِيهَا بِمِحْنَةٍ تَطْهِيرًا وَيُنْعِمُ عَلَى الْعَاصِي اسْتِدْرَاجًا وَالْمُؤَاخَذَاتُ الْمُعَجَّلَةُ فِي الدُّنْيَا لَمْ تُشْرَعْ إلَّا بِأَسْبَابٍ لَنَا فِيهَا ضَرْبُ ضَرَرٍ لِتَكُونَ زَوَاجِرَ عَنْهَا كُلِّهَا لِصَلَاحِنَا فَلَا تَتَمَحَّضُ مُؤَاخَذَةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا تَتَمَحَّضُ فِي الْآخِرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُؤَاخَذَةُ الْمَنْفِيَّةُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] مُقَيَّدَةٌ بِدَارِ الِابْتِلَاءِ أَيْ الْمُرَادُ مِنْهَا نَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: ٨٩] ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَحَدُ النَّصَّيْنِ غَيْرُ الْحُكْمِ الَّذِي يَنْفِيه الْآخَرُ فَلَمْ يَتَّحِدْ مَحَلُّ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَطَلَ التَّدَافُعُ.

ثُمَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَفَى التَّعَارُضَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَحَمَلَ الْمُؤَاخَذَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مُفَسَّرَةٌ بِالْكَفَّارَةِ فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْأُولَى، وَحَمَلَ الْعَقْدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْقَصْدُ لَا الْعَقْدُ الَّذِي ضِدُّهُ الْحَلُّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُطْلَقُ عَلَى قَصْدِ الْقَلْبِ وَعَزْمِهِ عَلَى الشَّيْءِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى رَبْطِ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِالْآخَرِ يُقَالُ عَقَدْتُ عَلَى كَذَا أَيْ عَزَمْت وَاعْتَقَدْتُ كَذَا أَيْ قَصَدْت وَمِنْهُ الْعَقِيدَةُ لِلْعَزِيمَةِ قَالَ الشَّاعِرُ:

عَقَدْت عَلَى قَلْبِي بِأَنْ نَكْتُمَ الْهَوَى ... فَصَاحَ وَنَادَى إنَّنِي غَيْرُ فَاعِلٍ

وقَوْله تَعَالَى {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] مُفَسَّرٌ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الْقَصْدَ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمِلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ فَيَكُونُ الْغَمُوسُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ دَاخِلَةٌ فِي الْعَقْدِ لَا فِي اللَّغْوِ

<<  <  ج: ص:  >  >>