وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: ٦] بِالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ مُتَعَارِضَانِ ظَاهِرًا فَإِذَا حَمَلْنَا النَّصْبَ عَلَى ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ وَالْخَفْضَ عَلَى حَالِ الِاسْتِتَارِ بِالْخُفَّيْنِ لَمْ يَثْبُتْ التَّعَارُضُ فَصَحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ أُقِيمَ مُقَامَ بَشَرَةِ الْقَدَمِ فَصَارَ مَسْحُهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الْقَدَمِ.
وَأَمَّا صَرِيحُ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ فَبِأَنْ يُعْرَفَ التَّارِيخُ فَيَسْقُطَ التَّعَارُضُ وَيَكُونَ آخِرُهُمَا نَاسِخًا
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى الْمَعْرُوفِ أَيْ غُلِبُوا وَهُمْ مِنْ بَعْدِ أَنْ كَانُوا غَالِبِينَ عَلَى خَصْمِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فَالْمَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ وَلَكِنَّهُ جَازَ إرَادَتُهُمَا لِاخْتِلَافِ الْحَالَتَيْنِ كَذَلِكَ هُنَا، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي النِّسَاءِ أَنْ لَا يَمْتَدَّ حَيْضُهُنَّ إلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَلَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْأَقَلِّ بَلْ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي صِفَةِ النِّسَاءِ هُنَّ نَاقِصَاتُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ» ثُمَّ وَصَفَ نُقْصَانَ دِينِهِنَّ بِأَنْ تَتَحَيَّضَ إحْدَاهُنَّ فِي الشَّهْرِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا وَصَفَهُنَّ جُمْلَةً بِنُقْصَانِ الدِّينِ ثُمَّ فَسَّرَ النُّقْصَانَ فِي جُمْلَتِهِنَّ بِمَا ذَكَرَ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ فِي جُمْلَتَيْنِ وَالْخِطَابُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِنَّ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهُنَّ دُونَ الْعَشَرَةِ وَبِهِ نَقُولُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا بِالتَّخْفِيفِ فَلِأَنَّ الِانْقِطَاعَ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالِاغْتِسَالِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الطُّهْرِ الِاغْتِسَالُ أَيْضًا فَلِذَلِكَ قُرِئَ فِي الْقِرَاءَةِ بِالتَّخْفِيفِ فَإِذًا تَطَهَّرْنَ دُونَ طَهُرْنَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الِانْقِطَاعَ بِالِاغْتِسَالِ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى) أَيْ وَكَمَا أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُتَعَارِضَتَانِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَيَنْدَفِعُ ذَلِكَ التَّعَارُضُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فَكَذَا الْقِرَاءَتَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: ٦] بِخَفْضِ اللَّامِ وَنَصْبِهَا مُتَعَارِضَتَانِ إذْ الْخَفْضُ مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّأْسِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مَسْحِ الرِّجْلِ لَا غَيْرُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الرَّوَافِضِ وَالنَّصْبُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْوَجْهِ فَيُوجِبُ وُجُوبَ الْغَسْلِ وَعَدَمَ جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالْمَسْحِ فَيَتَعَارَضَانِ ظَاهِرًا فَيُتَخَلَّصُ عَنْهُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ (وَصَحَّ ذَلِكَ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَا يَسْتَقِيمُ الْحَمْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلِ عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ لَا عَلَى الْخُفِّ إذْ لَمْ يَقُلْ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَخِفَافِكُمْ، فَقَالَ قَدْ صَحَّ ذَلِكَ أَيْ حَمْلُ قِرَاءَةِ الْخَفْضِ عَلَى الْمَسْحِ بِالْخُفِّ وَإِنْ أُضِيفَ الْمَسْحُ إلَى الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَمَّا أُقِيمَ مُقَامَ بَشَرَةِ الْقَدَمِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا صَارَ مَسْحُهُ بِمَنْزِلَةِ مَسْحِ الْقَدَمِ فَصَارَ إضَافَةُ الْمَسْحِ إلَى الرِّجْلِ وَإِرَادَةُ الْخُفِّ مِنْهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصَارَ مَسْحُهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الْقَدَمِ أَيْ الْجِلْدُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ بَشَرَةِ الْقَدَمِ كَانَ الْمَسْحُ مُصَادِفًا بَشَرَةَ الْقَدَمِ تَقْدِيرًا كَمَا أَنَّ الْغَسْلَ يُصَادِفُ بَشَرَةَ الْقَدَمِ تَحْقِيقًا فَيَصِحُّ إضَافَةُ الْمَسْحِ إلَى الرِّجْلِ، وَفِي ذِكْرِ الرِّجْلِ دُونَ الْخُفِّ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمَسْحَ لَوْ أُضِيفَ إلَى الْخُفِّ بِأَنْ قِيلَ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَخِفَافِكُمْ لَأَوْهَمَ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَلْبُوسٍ فَفِي إضَافَتِهِ إلَى الرِّجْلِ وَإِرَادَةِ الْخُفِّ إزَالَةُ ذَلِكَ الْوَهْمِ، وَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ هُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا شَرْعِيَّةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ بِالْكِتَابِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَأَمَّا عِنْدَ عَامَّةِ الْمُحَقِّقِينَ فَالْمَسْحُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ دُونَ الْكِتَابِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْهِدَايَةِ وَعَامَّةِ الْكُتُبِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا بِهِ لَكَانَ مُغَيًّا إلَى الْكَعْبَيْنِ كَالْغَسْلِ.
وَمَا قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مُغَيًّا إلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ نُسِخَتْ الْغَايَةُ بِالسُّنَّةِ وَبَقِيَ أَصْلُ الْمَسْحِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالنَّقْلِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ مُغَيًّا ثُمَّ نُسِخَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا قُلْت بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ حَتَّى جَاءَنِي فِيهِ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ أَوْ قَالَ مِثْلُ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute