للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ حَرَّمَ الضَّبَّ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ

ــ

[كشف الأسرار]

لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ خُلِقَ الْخَلَائِقُ وَلَمْ يُكَلَّفُوا بِشَيْءٍ مُدَّةً ثُمَّ بُعِثَ فِيهِمْ الْأَنْبِيَاءُ بِالتَّكْلِيفِ فَكُلِّفُوا بِتَحْرِيمِ الْبَعْضِ وَإِبْقَاءِ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إذْ النَّاسُ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى أَيْ مُهْمَلًا فِي زَمَانٍ فَإِنَّ أَوَّلَ الْبَشَرِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ كَانَ صَاحِبَ شَرْعٍ قَدْ أَتَى بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يَخْلُ قَرْنٌ بَعْدَهُ عَنْ دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ وَإِنْ فَتَرَ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إلَى تَحْدِيدِ النَّظَرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: ٢٤] أَيْ وَمَا مِنْ أُمَّةٍ فِيمَا مَضَى إلَّا جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ الْإِبَاحَةِ أَصْلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ الشَّيْخُ بِهِ وَإِنَّمَا قَالَ بِكَوْنِهَا أَصْلًا فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْحُرْمَةَ قَدْ ثَبَتَتَا فِي الْأَشْيَاءِ بِالشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ وَبَقِيَتَا إلَى زَمَانِ الْفَتْرَةِ ثُمَّ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ ظَاهِرَةً فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَثْبُتَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ فِي شَرِيعَتِنَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْإِبَاحَةِ أَصْلًا لَا أَنَّهَا أَصْلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ بَيَانُ مَحَلِّ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْقَوْلُ بِالْإِبَاحَةِ أَوْ الْحَظْرِ أَوْ التَّوَقُّفِ قَبْلَ وُجُودِ الْخَلَائِقِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ وَبَعْدَمَا وُجِدُوا لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي زَمَانٍ فَلَمْ يَكُنْ مَحَلُّ الْخِلَافِ إلَّا زَمَانَ الْفَتْرَةِ.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَنْ بَلَغَ فِي شَاهِقِ جَبَلٍ وَلَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُ السَّمْعِ أَوْ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ، وَذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَهَذَا أَيْ الْوَقْفُ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَضِرَارٍ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ زَمَانُ الْعُقَلَاءِ عَنْ شَرِيعَةٍ وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا لَا عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهَا، وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ أَنَّ مَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرَّمَ تَارَةً وَيُبَاحَ أُخْرَى فَقَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَوْ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَيْهِ الشَّرْعُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ وَلَا بِالْإِبَاحَةِ وَفِعْلُ الْإِنْسَانِ فِيهِ أَيْضًا لَا يُوصَفُ بِالْحِلِّ وَلَا بِالْحُرْمَةِ كَفِعْلِ مَنْ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ أَمَّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَالْأَمْوَالُ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِالْإِجْمَاعِ مَا لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَهُمْ الْعِبَادَاتِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِهَا إلَّا بِالْعِصْمَةِ عَنْ الْإِتْلَافِ وَالْعِصْمَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِتَحْرِيمِ إتْلَافِ الْأَنْفُسِ وَالْأَطْرَافِ جَمِيعًا، قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ تَرْجِيحُ الْمُحَرَّمِ وَجَعْلُهُ نَاسِخًا لِلْمُبِيحِ مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَرَّمَ الضَّبَّ وَهُوَ مَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ أُهْدِي لَهَا ضَبٌّ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِهِ فَكَرِهَهُ فَجَاءَ سَائِلٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تُطْعِمَهُ إيَّاهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ» فَدَلَّ أَنَّهُ كَرِهَهُ لِحُرْمَتِهِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَرَاهِيَةُ الْأَكْلِ لِلْحُرْمَةِ لَأَمَرَهَا بِالتَّصَدُّقِ كَمَا أَمَرَ بِهِ فِي شَاةِ الْأَنْصَارِيِّ بِقَوْلِهِ أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ أَنَّهُ.

قَالَ «نَزَلْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الضِّبَابِ فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ وَطَبَخْنَا مِنْهَا وَإِنَّ الْقُدُورَ لَتَغْلِي بِهَا إذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا هَذَا، فَقُلْنَا ضِبَابٌ أَصَبْنَاهَا فَقَالَ إنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسِخَتْ دَوَابَّ فِي الْأَرْضِ وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ فَاكْفِنُوهَا» وَرُوِيَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>