. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَيْهِ مِنْ النَّصَارَى وَعَنْ ابْنِ زَيْدٍ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ فَوْقَ الْيَهُودِ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ مَمْلَكَةٌ كَمَا لِلنَّصَارَى ثُمَّ هَذَا، وَإِنْ كَانَ تَوْقِيتًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ تَأْبِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: ٢١٢] ، فَإِذَا كَانَ مُتَّبِعُوهُ ظَاهِرِينَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ غَلَبَةِ الْكُفَّارِ كَانُوا غَالِبِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ غَلَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانُوا غَالِبِينَ أَبَدًا ضَرُورَةً وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِعْمَ الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ يَصْدُرُ إذَا خَافَهُ وَلَا يُقَالُ لَا يَصِحُّ إيرَادُ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ الْأَحْكَامِ، وَامْتِنَاعُ النَّسْخِ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ لَا بِالتَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ إيرَادُ النَّظِيرِ لِلتَّأْبِيدِ نَصًّا وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَحْكَامِ تَأْبِيدٌ صَرِيحٌ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِإِيرَادِهِمَا فَلِذَلِكَ أَوْرَدَهُمَا وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي تَأْبِيدُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُمَا لَمَّا كَانُوا مُؤَبَّدِينَ فِيهِمَا كَانَتَا مُؤَبَّدَتَيْنِ ضَرُورَةً وَالثَّالِثُ وَاضِحٌ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ أَذِنْت لَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا كَذَا إلَى سَنَةٍ أَوْ قَالَ: أَحْلَلْت هَذَا الشَّيْءَ عَشْرَ سِنِينَ أَوْ مِائَةَ سَنَةٍ فَإِنَّ الْمَنْعَ عَنْهُ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْبَدَاءِ وَالْغَلَطِ وَالنَّسْخُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ بَاطِلٌ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَيْسَ لِهَذَا الْقِسْمِ مِثَالٌ مِنْ الْمَنْصُوصَاتِ شَرْعًا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: ٢٢٢] {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة: ١٨٧] ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ شَرْعِيَّةُ حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَشَرْعِيَّةُ إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي اللَّيْلِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُوَقَّتَةٍ بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
١ -
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ إلَى جَوَازِ نَسْخِ مَا لَحِقَهُ تَأْبِيدٌ أَوْ تَوْقِيتٌ مِنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْيُسْرِ وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ وَالشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخَانِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ مِثْلَ قَوْلِهِ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ لِتَأْدِيَةِ النَّسْخِ فِيهِ إلَى الْكَذِبِ وَالتَّنَاقُضِ تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْخِطَابَ إذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ لِعُمُومِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطِبُ مَعَ ذَلِكَ مَرِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ النَّاسِخِ الْمُعَرِّفِ لِمُرَادِ الْمُخَاطِبِ وَلِذَلِكَ لَوْ فَرَضْنَا ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ مُحَالٌ.
تَنْبِيهٌ: إنَّ فِي الْعُرْفِ قَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ الْمُبَالَغَةُ لَا الدَّوَامُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَازِمْ فُلَانًا أَبَدًا وَفُلَانٌ يُكْرِمُ الضَّيْفَ أَبَدًا وَاجْتَنِبْ فُلَانًا أَبَدًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ وَيَتَبَيَّنُ بِلُحُوقِ النَّاسِخِ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ لَا الدَّوَامُ وَلِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ أَنَّ قَوْلَهُ صُومُوا أَبَدًا مَثَلًا لَا يَرْبُوا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى قَوْلِهِ صُمْ غَدًا فَكَمَا جَازَ نَسْخُ هَذَا قَبْلَ الْغَدِ لِمَا سَنُبَيِّنُ جَازَ نَسْخُ الْآخَرِ أَيْضًا وَتَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ نَسْخَ الْخِطَابِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ أَوْ التَّوْقِيتِ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ وَالْبَدَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّأْبِيدِ أَنَّهُ دَائِمٌ وَالنَّسْخُ يَقْطَعُ الدَّوَامَ فَيَكُونُ دَائِمًا غَيْرَ دَائِمٍ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِنَسْخِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ الصَّوْمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute