وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: ١١] الْآيَةَ هَذَا حُكْمٌ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِيمَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ يُعْطَى مَا غَرِمَ فِيهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ مَعُونَةً لَهُ وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِعَانَةَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: ١١] أَيْ غَنِمْتُمْ
ــ
[كشف الأسرار]
لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْت عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَكَانَ هَذَا نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ تِلَاوَةُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَقِيلَ نُسِخَ حُكْمُ الْإِمْسَاكِ بِآيَةِ الْجَلْدِ وَهِيَ تَتَنَاوَلُ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ ثُمَّ خُصَّتْ الثَّيِّبُ بِحَدِيثِ الرَّجْمِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ مُخَصِّصًا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ نَاسِخًا أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا مُجْمَلٌ فَسَرَّتْهُ السُّنَّةُ يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الرَّجْمَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فَذَلِكَ بِطَرِيقِ تَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ لَا بِطَرِيقِ النَّسْخِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ كَانَ مُوَقَّتًا بِمَا هُوَ مُجْمَلٌ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: ١٥] ، فَإِنَّ أَوْ هَذِهِ بِمَعْنَى إلَى أَنْ ثُمَّ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْمُجْمَلَ بِقَوْلِهِ «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ» الْحَدِيثَ، وَتَفْسِيرُ الْمُجْمَلِ بِالسُّنَّةِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ فَانْتَهَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِهَذَا الْبَيَانِ كَانْتِهَاءِ الصَّوْمِ بِاللَّيْلِ فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ) أَيْ بَعْضُ مَنْ جَوَّزَ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: ١١] ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ إيتَاءُ الزَّوْجِ مِثْلَ مَا أَنْفَقَ حُكْمٌ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ إذْ لَا يُتْلَى نَاسِخُهُ فِي الْقُرْآنِ.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ} [الممتحنة: ١١] الْآيَةَ فِيمَنْ أَيْ فِي شَأْنِ مَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ يُعْطَى زَوْجُهَا بَدَلًا مِنْ مَالٍ أَيْ فِي إعْطَاءِ مَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ مَا غَرِمَ فِيهَا مِنْ الصَّدَاقِ مَعُونَةً لَهُ فِي دَفْعِ الْخُسْرَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ وَلَكِنْ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ لَا مِنْ كُلِّ مَالٍ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَعَاقَبْتُمْ أَصَبْتُمُوهُمْ فِي الْقِتَالِ بِعُقُوبَةٍ حَتَّى غَنِمْتُمْ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ أَوْ أَصَبْتُمْ عُقْبَى مِنْهُمْ أَيْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لَكُمْ حَتَّى غَنِمْتُمْ
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قِيلَ هُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ أَيْضًا وَقِيلَ هُوَ مَنْسُوخٌ وَنَاسِخُهُ آيَةُ الْقِتَالِ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ وَقِيلَ نَاسِخُهُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: ٢٩] كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ وَذُكِرَ فِي الْمَطْلَعِ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: ١٠] أَدَّى الْمُؤْمِنُونَ مُهُورَ الْمُهَاجِرَاتِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُؤَدُّوا شَيْئًا مِنْ مُهُورِ الْمُرْتَدَّاتِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ خَرَجَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَتَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ الْقَوْمُ هَذِهِ عَقَبَتُكُمْ قَدْ أَتَتْكُمْ فَنَزَلَتْ وَالْمَعْنَى، وَإِنْ سَبَقَكُمْ وَانْفَلَتَ مِنْكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ أَيْ أَحَدٌ مِنْهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ مِنْ الْعُقْبَةِ وَهِيَ النَّوْبَةُ شَبَّهَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَدَاءِ هَؤُلَاءِ مُهُورَ نِسَاءِ أُولَئِكَ تَارَةً وَأُولَئِكَ مُهُورَ نِسَاءِ هَؤُلَاءِ أُخْرَى بِأَمْرٍ يَتَعَاقَبُونَ فِيهِ أَيْ يَتَنَاوَبُونَ كَمَا يُتَعَاقَبُ فِي الرُّكُوبِ وَغَيْرِهِ وَمَعْنَاهُ فَجَاءَتْ عَقَبَتُكُمْ مِنْ أَدَائِكُمْ فَآتُوا مَنْ فَاتَتْهُ امْرَأَتُهُ مِنْ الْكُفَّارِ مُرْتَدَّةً مِثْلَ مَهْرِهَا مِنْ مَهْرِ مُهَاجِرَةٍ جَاءَتْكُمْ وَلَا تُؤْتُوهُ زَوْجَهَا الْكَافِرَ لِيَكُونَ قِصَاصًا.
قَالُوا وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ الِامْتِحَانِ وَرَدِّ الْمَهْرِ وَأَخْذِهِ مِنْ الْكُفَّارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute