وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ النَّاسِخِ أَشُقَّ مِنْ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَسَخَ التَّخْيِيرَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِعَزِيمَةِ الصِّيَامِ وَنَسَخَ الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ عَنْ الْكُفَّارِ بِقِتَالِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فَقَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: ١٩٠] ثُمَّ نَسَخَهُ بِقِتَالِهِمْ كَافَّةً بِقَوْلِهِ {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: ٣٦] وَالنَّاسِخُ أَشُقُّ هَهُنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَخَفَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: ١٠٦] وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَرَافِقِ الْعِبَادِ وَفِي الْأَشَقِّ فَضْلُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
[كشف الأسرار]
فِي أَشْرِبَةِ الْمَبْسُوطِ عَنْ النَّبِيذِ أَيْ عَنْ أَخْذِ النَّبِيذِ أَوْ شُرْبِ النَّبِيذِ وَالنَّبِيذُ التَّمْرُ يُنْبَذُ فِي جَرَّةِ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهَا أَيْ يُلْقَى فِيهَا حَتَّى يَغْلِيَ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالدُّبَّاءُ الْقَرْعُ وَالْحَنْتَمُ جِرَارٌ حُمْرٌ وَقِيلَ خُضْرٌ تُحْمَلُ فِيهِ الْخَمْرُ إلَى الْمَدِينَةِ الْوَاحِدُ حَنْتَمَةٌ وَالنَّقِيرُ الْخَشَبَةُ الْمُقَوَّرَةُ وَالْمُزَفَّتُ الْوِعَاءُ الْمَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ وَهُوَ الْقَارُ وَهَذِهِ أَوْعِيَةٌ ضَارِيَةٌ تُسْرِعُ بِالشِّدَّةِ فِي الشَّرَابِ وَتُحْدِثُ فِيهِ التَّغَيُّرَ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُهُ فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ مِنْ شُرْبِ الْمُحَرَّمِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.
قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ النَّاسِخِ أَشُقُّ مِنْ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ) اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِبَدَلٍ أَخَفَّ كَنَسْخِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِيِ رَمَضَانَ بِحِلِّهِ وَبِبَدَلٍ مُمَاثِلٍ كَنَسْخِ وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي جَوَازِ النَّسْخِ إلَى بَدَلٍ أَثْقَلَ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى جَوَازِهِ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد إلَى امْتِنَاعِهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ أَثْبَتَهَا وَأُخْرَى نَسَخَهَا رَحْمَةً وَتَخْفِيفًا لِعِبَادِهِ فَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي النَّسْخِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ النَّاسِخَ أَخَفُّ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَكَانَ لَا يُجَوِّزُ نَسْخَ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: ١٠٦] أَخْبَرَ أَنَّ النَّاسِخَ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ أَوْ الْمِثْلِيَّةِ هُوَ الْخَيْرِيَّةُ أَوْ الْمِثْلِيَّةُ فِي حَقِّنَا وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ خَيْرٌ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ فِيهِ وَالْأَشَقُّ لَيْسَ بِخَيْرٍ وَلَا مِثْلٍ فَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: ٢٨] ، فَإِنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى إرَادَةِ الْيُسْرِ وَالتَّخْفِيفِ وَالنَّقْلِ إلَى الْأَشَقِّ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْعُسْرِ وَالتَّثْقِيلِ فَيَكُونُ خِلَافَ النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ وَبِأَنَّ النَّقْلَ إلَى الْأَشَقِّ أَبْعَدُ فِي الْمَصْلَحَةِ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا الْتَزَمُوا الْمَشَقَّةَ الزَّائِدَةَ.
وَإِنْ تَرَكُوا تَضَرَّرُوا بِالْعُقُوبَةِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الشَّارِعِ وَرَأْفَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ عَلَى الْجَوَازِ أَمَّا دَلَالَةُ الْعَقْلِ فَلِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِ قَدْ تَكُونُ فِي التَّرَقِّي مِنْ الْأَخَفِّ إلَى الْأَثْقَلِ كَمَا يَكُونُ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ وَرَفْعِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَمَا يَكُونُ فِي النَّقْلِ مِنْ الْأَثْقَلِ إلَى الْأَخَفِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّبِيبَ يَنْقُلُ الْمَرِيضَ مِنْ الْغِذَاءِ إلَى الدَّوَاءِ تَارَةً وَمِنْ الدَّوَاءِ إلَى الْغِذَاءِ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ فِيهِ وَأَمَّا دَلَالَةُ الشَّرْعِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْفِدْيَةِ عَنْهُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ وَمُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ذَلِكَ فَعَزِيمَةُ الصِّيَامِ أَيْ بِالصَّوْمِ حَتْمًا بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّوْمَ حَتْمًا أَشُقُّ مِنْ التَّخْيِيرِ وَنَسَخَ الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ عَنْ الْكُفَّارِ الثَّابِتِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: ١٣] بِآيَاتِ الْقِتَالِ وَنَسَخَ الْحَبْسَ وَالْإِيذَاءَ بِاللِّسَانِ فِي حَدِّ الزِّنَا بِالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ وَنَسَخَ إبَاحَةَ الْخَمْرِ وَنِكَاحَ الْمُتْعَةِ وَلُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ بِتَحْرِيمِهَا وَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَكَوْنَ الْحَجِّ مَنْدُوبًا بِكَوْنِهِ فَرْضًا وَإِبَاحَةَ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْخَوْفِ بِوُجُوبِ أَدَائِهَا فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ نَسْخٌ بِالْأَشَقِّ وَالْأَثْقَلِ وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِالْآيَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute