للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَلَا تَرَى أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصُ فِي الْمَكَانِ كَرَسُولَيْنِ بُعِثَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَكَمَا كَانَ هَارُونُ لِمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا فَصَارَ الِاخْتِصَاصُ فِي شَرَائِعِهِمْ أَصْلًا إلَّا بِدَلِيلٍ.

وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّالِثَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَصْلًا فِي الشَّرَائِعِ وَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ عَامَّةً لِكَافَّةِ النَّاسِ وَكَانَ وَارِثًا لِمَا مَضَى مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى

ــ

[كشف الأسرار]

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: ١٣] أَضَافَ الشَّرْعَ إلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ الدُّعَاءُ إلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَبْلِيغُهَا إلَى عِبَادِهِ إلَّا إذَا ثَبَتَ الِانْتِسَاخُ فَيُعْلَمُ بِهِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَبَدَّلَتْ بِتَبَدُّلِ الزَّمَانِ فَيَنْتَهِي الْأَوَّلُ إلَى الثَّانِي فَأَمَّا مَعَ بَقَائِهَا شَرِيعَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَمَعَ قِيَامِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي الْبَقَاءِ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِانْتِهَائِهَا بِوَفَاةِ الرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ الْآتِي بِهَا فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِاخْتِصَاصِ كُلِّ شَرِيعَةٍ بِنَبِيِّهَا وَانْتِهَائِهَا بِوَفَاتِهِ أَوْ بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أَيْ جَعَلْنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ شِرْعَةً بِبَعْثِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْ شَرِيعَةً وَهِيَ الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ وَمِنْهَاجًا طَرِيقًا وَاضِحًا يَجْرُونَ عَلَيْهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ نَبِيٍّ دَاعِيًا إلَى شَرِيعَتِهِ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ أُمَّةٍ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَةٍ جَاءَ بِهَا نَبِيُّهُمْ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرِيعَةِ الْمَاضِيَةِ الْخُصُوصُ؛ لِأَنَّ بَعْثَ الرَّسُولِ لَيْسَ إلَّا لِبَيَانِ مَا بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى بَيَانِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ شَرِيعَةَ رَسُولٍ مُنْتَهِيَةً بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ وَلَمْ يَأْتِ الثَّانِي بِشَرْعٍ مُسْتَأْنِفٍ لَمْ يَكُنْ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْبَيَانِ عِنْدَ بَعْثِ الثَّانِي لِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا عِنْدَهُمْ بِالطَّرِيقِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَعْثِهِ فَائِدَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُرْسِلُ رَسُولًا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ هُوَ الْأَصْلُ أَلَا تَرَى أَنَّهَا أَيْ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الْمَكَانِ أَيْ قَدْ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِمَكَانٍ حِينَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ دُونَ مَكَان آخَرَ كَرَسُولَيْنِ بُعِثَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ مِثْلُ شُعَيْبٍ وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فَإِنَّ شَرِيعَةَ شُعَيْبٍ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِأَهْلِ مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَشَرِيعَةَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِبَنِي إسْرَائِيلَ وَمَنْ بُعِثَ إلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَيْ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّسُولَيْنِ تَبَعًا لِلْآخَرِ فَحِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ الْخُصُوصُ.

وَكَانَ التَّبَعُ دَاعِيًا إلَى شَرَائِعِ الْأَصْلِ كَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ، فَإِنَّ لُوطًا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ كَانَ تَبَعًا لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَدَاعِيًّا إلَى شَرِيعَتِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: ٢٦] وَكَذَلِكَ هَارُونُ كَانَ تَابِعًا لِمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي الشَّرِيعَةِ وَرِدْءًا لَهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ إخْبَارًا عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: ٣٤] {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: ٢٩] {هَارُونَ أَخِي} [طه: ٣٠] فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الْمَكَانِ يَعْنِي كَمَا احْتَمَلَتْ الْخُصُوصَ فِي الْمَكَانِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الزَّمَانِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَكْثَرَهُمْ إنَّمَا بُعِثُوا إلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ وَرَسُولُنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ الْمَبْعُوثُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً عَلَى مَا قَالَ «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي بُعِثْت إلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ قَبْلِي يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ» الْحَدِيثَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْمُرْسَلِينَ مَنْ يَكُونُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ عَلَى أَهْلِ مَكَان دُونَ أَهْلِ مَكَان آخَرَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلِمْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا عَلَى أَهْلِ زَمَانٍ دُونَ أَهْلِ زَمَانٍ آخَرَ وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْعَ يَكُونُ مُنْتَهِيًا بِبَعْثِ نَبِيٍّ آخَرَ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ النَّبِيَّيْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي مَكَانَيْنِ عَلَى أَنْ يَدْعُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى شَرِيعَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي زَمَانَيْنِ وَأَنَّ الْمَبْعُوثَ آخِرًا يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ وَلَا يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ.

وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّالِثَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>