بَلْ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ مِثْلَ مَا عَمِلُوا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» الْخَبَرَ.
وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَدُوا بِاَلَّذِينً مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ مِمَّا دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا
ــ
[كشف الأسرار]
الْمُجْتَهِدِينَ فَكَانَ قَوْلُهُمْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ كَقَوْلِ غَيْرِهِمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَأِ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَرْجِعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ فَتْوَاهُ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ وَكَانُوا لَا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْخَطَأِ لَمَا جَازَ لَهُمْ الْمُخَالَفَةُ بِآرَائِهِمْ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِمْ دُعَاءُ النَّاسِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَمُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ حَرَامٌ وَالدَّعْوَةُ إلَيْهِ وَاجِبَةٌ كَالدَّعْوَةِ إلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوِّضَةِ، فَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ فَثَبَتَ أَنَّ احْتِمَالَ الْخَطَأِ فِيهِ ثَابِتٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ وَإِذَا كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مُحْتَمِلًا لِلْخَطَأِ لَمْ يَجُزْ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ أَيْ تَقْلِيدُ مِثْلِ الصَّحَابِيِّ وَتَرْكُ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ عَنْ اجْتِهَادٍ أَوْ حَدِيثٍ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ الْأَصْلُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ فَرْعُ ذَلِكَ الْأَصْلِ فَيَتْبَعُونَهُ لَا فَرْعُ أَصْلٍ آخَرَ فَيُخَالِفُونَهُ.
وَإِنْ كَانَ عَنْ حَدِيثٍ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَأَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ الْحَدِيثِ وَبِدُونِ الْبَاقِي يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ وَحُكْمُهُ فَلَا يَتْرُكُ الْحُجَّةَ بِالِاحْتِمَالِ وَلِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ لِكَوْنِهِمْ أَعْلَمَ وَأَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِمُشَاهَدَتِهِمْ التَّنْزِيلَ وَسَمَاعِهِمْ التَّأْوِيلَ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى أَحْوَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى مَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ الْأَفْضَلِ صَحَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ إذْ لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ قَوْلُهُ (بَلْ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ) جَوَابٌ عَمَّا تَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ» فَقَالَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْجَرْيِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنْ أَخْذِهِمْ الْحُكْمَ مِنْ الْكِتَابِ أَوَّلًا ثُمَّ مِنْ السُّنَّةِ ثُمَّ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ لَا تَقْلِيدُهُمْ فِي أَقْوَالِهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَبَّهَهُمْ بِالنُّجُومِ، وَإِنَّمَا يُهْتَدَى بِالنُّجُومِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا أَنَّ نَفْسَ النَّجْمِ يُوجِبُ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ هَذَا النَّصُّ عَمَّ الصَّحَابَةَ وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَأَعْرَابٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَهْلَ الْبَصَرِ وَأَهْلُ الْبَصَرِ عَمِلُوا بِالرَّأْيِ بَعْدَ الْكِتَابِ فِي السُّنَّةِ فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ) أَيْ وَمَنْ قَالَ بِتَقْلِيدِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» وَبِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّقْلِيدِ مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ أَيْ اخْتِصَاصِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ بِفَضَائِلَ مِمَّا دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ. وَكَلِمَةُ " مِنْ " فِي " مِمَّا " بَيَانٌ لِلِاخْتِصَاصِ وَفِي مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ بَيَانٌ بِمَا رُوِيَ يَعْنِي لِلتَّمَسُّكِ وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي رُوِيَتْ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِالْفَضَائِلِ الَّتِي تُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي وَرَضِيت لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ»
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute