للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ وَلِاحْتِمَالِ فَضْلِ إصَابَتِهِمْ فِي نَفْسِ الرَّأْيِ فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ هُوَ النِّهَايَةَ فِي الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِيَكُونَ السُّنَّةُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا وَشِبْهِهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ الْقِيَاسُ بِأَقْوَى وُجُوهِهِ حُجَّةً وَهُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ بِأَثَرِهِ الثَّابِتِ شَرْعًا فَقَدْ ضَيَّعَ الشَّافِعِيُّ عَامَّةً وُجُوهَ السُّنَنِ ثُمَّ مَالَ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ الشَّبَهَ وَهُوَ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِإِضَافَةِ الْوُجُوبِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ إلَّا كَمَنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَعَمِلَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَجَعَلَ الِاحْتِيَاطَ مَدْرَجَةً إلَى الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ

ــ

[كشف الأسرار]

الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِاعْتِبَارِهَا الْأَحْكَامُ وَلِأَنَّ لَهُمْ زِيَادَةَ جِدٍّ وَحِرْصٍ فِي بَذْلِ مَجْهُودِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِمَا هُوَ تَثْبِيتُ قِوَامِ الدِّينِ وَزِيَادَةَ احْتِيَاطٍ فِي حِفْظِ الْأَحَادِيثِ وَضَبْطِهَا وَطَلَبِهَا وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدَهُمْ غَايَةَ التَّأَمُّلِ وَفَضْلَ دَرَجَةٍ لَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ» .

وَقَوْلِهِ «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَا أَمَانٌ لِأَصْحَابِي وَأَصْحَابِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَلِمِثْلِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ أَثَرٌ فِي إصَابَةِ الرَّأْيِ وَكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنْ الْخَطَأِ فَبِهَذِهِ الْمَعَانِي تَرَجَّحَ رَأْيُهُمْ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِمْ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الرَّأْيَيْنِ إذَا ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا نَوْعُ تَرْجِيحٍ وَجَبَ الْأَخْذُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ رَأْيِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ وَرَأْيِ الْوَاحِدِ مِنَّا يَجِبُ تَقْدِيمُ رَأْيِهِ عَلَى رَأْيِنَا لِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي رَأْيِهِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ جِهَةَ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ لَظَهَرَ لِاتِّحَادِ مَكَانِهِمْ وَطَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَمُشَاوَرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ قُرَنَائَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ صَاحِبِهِ خَبَرٌ يَمْنَعُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ، وَلَوْ ظَهَرَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لَوَصَلَ إلَيْنَا مِنْ جِهَةِ التَّابِعِينَ لِنَصْبِ أَنْفُسِهِمْ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِجْمَاعُ يَجِبُ الْعَمَلُ قَطْعًا، فَإِذَا تَرَجَّحَ جِهَةُ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِقِيَاسٍ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَبِمَا ذَكَرْنَا خُرِّجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ؛ لِأَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَتْ الدَّلَائِلُ الْمُحْتَمَلَةُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَعَ احْتِمَالِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ فَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَذَلِكَ وَلَكِنَّ كَلَامَنَا وَقَعَ فِيمَا إذَا وُجِدَ مِنْ الصَّحَابِيِّ وَلَمْ يَظْهَرْ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا خِلَافُ غَيْرِهِ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ.

، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ لِمُسَاوَاتِهِ إيَّاهُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ لِوُجُودِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي مَرَّتْ.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ عِنْدَ مُجْتَهِدٍ أَنَّ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الرَّأْيِ أَعْلَمُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَدَعُ رَأْيَهُ لِرَأْيِ مَنْ عَرَفَ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي اجْتِهَادِهِ كَمَا أَنَّ الْعَامِّيَّ يَدَعُ رَأْيَهُ لِرَأْيِ الْمَعْنِيِّ الْمُجْتَهِدِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَدَعُ الْمُجْتَهِدُ فِي زَمَانِنَا رَأْيَهُ لِرَأْيِ مَنْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ وَفِي مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ مِنَّا وَالْمُجْتَهِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالَةِ لَا يَخْفَى فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ فَهُمْ قَدْ شَاهَدُوا أَحْوَالَ مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَسَمِعُوا مِنْهُ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ ذَلِكَ إلَيْنَا بِخَبَرِهِمْ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ.

، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ تَأْوِيلَ الصَّحَابِيِّ لِلنَّصِّ لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى تَأْوِيلِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ قُلْنَا: إنَّ التَّأْوِيلَ يَكُونُ بِالتَّأَمُّلِ فِي وُجُوهِ اللُّغَةِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ وَلَا مِزْيَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُ مِنْ مَعَانِي اللِّسَانِ فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ التَّأَمُّلُ فِي النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَلِأَجْلِهِ يَظْهَرُ لَهُمْ الْمِزْيَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>