وَمِنْ النَّاسِ مَنْ زَادَ فِي هَذَا، وَقَالَ: لَا إجْمَاعَ إلَّا لِلصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْأُصُولُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى مَا أَيْ مَا يَجْرِي مَجْرَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّأْيِ مِثْلُ الْمَقَادِيرِ، فَإِنَّ الرَّأْيَ وَإِنْ كَانَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهَا، وَلَكِنْ أَجْرَوْا بَعْضَهَا مَجْرَى مَا يَدْخُلُ فِيهِ الرَّأْيُ كَتَقْدِيرِ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إلَّا أَهْلُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ أَيْ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَوَامُّ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمْ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ الْعَوَامّ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ إلَّا عِلْمَ الْكَلَامِ وَالْمُفَسِّرِ الَّذِي لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُحَدِّثِ الَّذِي لَا بَصَرَ لَهُ فِي وُجُوهِ الرَّأْيِ وَطُرُقِ الْمَقَايِيسِ وَالنَّحْوِيِّ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ آلَاتِهِمْ فِي دَرْكِ الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَامّ وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَحْفَظُ أَحْكَامَ الْفُرُوعِ وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفُرُوعِيِّ وَفِيمَنْ تَفَرَّدَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَلَمْ يَحْفَظْ الْفُرُوعَ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأُصُولِيِّ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْأُصُولِيَّ دُونَ الْفُرُوعِيِّ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الِاجْتِهَادِ لِعِلْمِهِ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَأَقْسَامِهَا وَكَيْفِيَّةِ دَلَالَاتِهَا وَكَيْفِيَّةِ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا وَمَعْقُولِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفُرُوعِيِّ
وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْفُرُوعِيَّ دُونَ الْأُصُولِيِّ لِعِلْمِهِ بِتَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَهُمَا نَظَرًا إلَى وُجُودِ نَوْعٍ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ الَّذِي عُدِمَ ذَلِكَ فِي الْعَامَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُمَا وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الشَّيْخِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَئِمَّةِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَفْظُ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ فَيُشْتَرَطُ اشْتِرَاطُ الْكُلِّ فَيَقُولُ: إنَّهُ عَامٌّ قَدْ خُصَّ مِنْهُ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْفُقَهَاءِ الْعَارِفِينَ بِطُرُقِ الْأَحْكَامِ، وَنَقُولُ أَيْضًا: إنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْأُمَّةِ حُجَّةً إذَا قَالُوهُ عَنْ اسْتِدْلَالٍ، وَهِيَ إنَّمَا عُصِمَتْ عَنْ الْخَطَأِ فِي اسْتِدْلَالِهَا، وَالْعَامَّةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِيُعْصَمُوا مِنْ الْخَطَأِ فَصَارَ وُجُودُهُمْ وَعَدَمُهُمْ بِمَنْزِلَةٍ إلَّا فِيمَا يُسْتَغْنَى عَنْ الرَّأْيِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ فِيهِ كَمَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْعَامَّةِ
وَكَذَا إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةٍ تَتَبَنَّى عَلَى عُلُومِهِمْ مِثْلُ النَّحْوِ أَوْ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَوْلُ كُلِّ عَالِمٍ فِيمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ فِي الْإِجْمَاعِ كَوْنَ الْمُجْمِعِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: لَا إجْمَاعَ إلَّا لِلصَّحَابَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَشِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا قُلْنَا وَالصَّحَابَةُ هُمْ الْأُصُولُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا هُمْ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: ١١٠] وَبِقَوْلِهِ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: ١٤٣] دُونَ غَيْرِهِمْ إذْ الْخِطَابُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ دُونَ الْمَعْدُومِ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: ١١٥] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» خَاصٌّ بِالصَّحَابَةِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذْ هُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ لَا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْأُمَّةِ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ اتِّفَاقِ الْكُلِّ، وَالْعِلْمُ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْكُلِّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ سِوَاهُمْ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي إلَّا فِي الْجَمْعِ الْمَحْصُورِ كَمَا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ أَمَّا فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ فَيَسْتَحِيلُ مَعْرِفَةُ اتِّفَاقِ جَمِيعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute