وَمِنْ أَهْلِ الْهَوَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً قَاطِعَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اعْتَمَدَ مَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَكِنَّ هَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ
ــ
[كشف الأسرار]
اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ الْإِجْمَاعُ فِيهِ حُجَّةً حَتَّى لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْخَطَإِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ دُونَ مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ التَّلْقِيحِ «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ» وَكَانَ إذَا رَأَى رَأْيًا فِي الْحَرْبِ رَاجَعَهُ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ وَرُبَّمَا كَانَ يَتْرُكُ رَأْيَهُ بِرَأْيِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُرَاجِعُهُ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ.
وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً فِيهِ هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي كَمَا فِي الْإِجْمَاعِ فِي أُمُورِ الدِّينِ فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحَالُ يَجِبُ وَإِنْ تَغَيَّرَ لَا يَجِبُ وَيَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً مِثْلُ إبْرَاهِيمَ النَّظَّامِ وَالْقَاشَانِيِّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَأَكْثَرِ الرَّوَافِضِ، وَقَالَتْ الْإِمَامِيَّةُ مِنْهُمْ: إنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَاعُ وَلَكِنَّهُ حُجَّةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِمَامَ دَاخِلٌ فِيهِمْ، وَقَوْلُهُ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ فَالْحُجَّةُ قَوْلُ الْإِمَامِ عِنْدَهُمْ دُونَ الْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ وَمِنْ أَهْلِ الْهَوَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً قَاطِعَةً يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَهُمْ غَيْرَ قَاطِعَةٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ رَأَى الِاجْتِهَادَ مِنْهُمْ حُجَّةً؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ حُجَّةً فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ كَانَ اجْتِهَادُ الْجَمِيعِ حُجَّةً فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً ظَنِّيَّةً يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إذَا تَبَدَّلَ الِاجْتِهَادُ وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكُتُبِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا تَمَسَّكَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ وُقُوعَهُ مُسْتَحِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَتَبَاعُدِ دِيَارِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ بَغْدَادَ لَا يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْمَغْرِبِ وَلَا بِالْمَشْرِقِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفُوا أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْحَوَادِثِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْرِفَةَ قَوْلِ الْأُمَّةِ بِإِجْمَاعِهِمْ فِي الْحَوَادِثِ مُتَعَذِّرٌ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ آرَائِهِمْ فِي الْحَادِثَةِ مَعَ تَفَاوُتِ الْفِطَنِ وَالْقَرَائِحِ وَاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَالْمَطَالِبِ وَأَخْذِ كُلِّ قَوْمٍ صَوْتًا مِنْ أَسَالِيبِ الطُّيُورِ فَيَكُونُ تَصْوِيرُ إجْمَاعِهِمْ فِي الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ تَصْوِيرِ الْعَالَمِينَ فِي صُبْحِيَّةِ يَوْمٍ عَلَى قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ وَأَكْلِ نَوْعٍ مِنْ الطَّعَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ إمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ نَصٍّ أَوْ إمَّا لَا إذْ لَا بُدَّ مِنْ مُسْتَنَدٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ نَصٍّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ عَنْ نَصٍّ وَجَبَ نَقْلُهُ عَلَيْهِمْ إذَا تَعَلَّقَ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْ الْإِجْمَاعِ وَيَكُونُ هُوَ الْحُجَّةُ دُونَ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ أَمَارَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ مَظْنُونٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ انْعَقَدَ عَنْ أَمَارَةٍ يَكُونُ الْأَمَارَةُ هِيَ الْحُجَّةُ دُونَ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا.
١ -
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَهُمْ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى وَجْهٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ الْخَطَأُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اعْتَمَدَ مَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَيَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَجُوزَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْخَطَأُ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ كَمَا يَسْتَحِيلُ عَكْسُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا وَلَا يَكُونُ جَمِيعُهُمْ عَلَى الصَّوَابِ وَكَمَا يَسْتَحِيلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute