وَقَالَ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: ١٤٣] وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ وَذَلِكَ يُضَادُّ الْجَوْرَ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّاسِ تَقْتَضِي الْإِصَابَةَ وَالْحَقِّيَّةَ إذَا كَانَتْ شَهَادَةً جَامِعَةً لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ وَصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ خَيْرُ أُمَّةٍ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ أُمَّةٌ حَقِيقَةً وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ خَيْرًا مِنْ صَاحِبِهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فَكَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ مَجْمُوعَ الْأُمَّةِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَلِكِ لِعَسْكَرِهِ أَنْتُمْ خَيْرُ عَسْكَرٍ فِي الدُّنْيَا تَفْتَحُونَ الْقِلَاعَ وَتَكْسِرُونَ الْجُيُوشَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَلِكَ وَصَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْعَسْكَرِ بِذَلِكَ بَلْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ وَصَفَ الْمَجْمُوعَ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، فَكَذَا هَاهُنَا وَصْفُ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ بِالْخَيْرِيَّةِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَعْنَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ مَوْصُوفُونَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: ٥٥] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: ٧٢] وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ بَنُو هَاشِمٍ حُلَمَاءُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فُقَهَاءُ أَيْ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مَوْصُوفٌ بِهَا.
١ -
قَوْلُهُ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: ١٤٣] أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ جَعْلُ الْكَعْبَةِ قِبْلَةً جَعَلْنَاكُمْ أَيْ صَيَّرْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أَيْ خِيَارًا وَهِيَ صِفَةٌ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ وَسَطُ الشَّيْءِ وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَقِيلَ لِلْخِيَارِ وَسَطٌ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يَتَسَارَعُ إلَيْهَا الْخَلَلُ وَالْأَوْسَاطُ مَحْمِيَّةٌ.
وَقِيلَ عُدُولًا لِأَنَّ الْوَسَطَ عَدْلٌ بَيْنَ الْأَطْرَافِ لَيْسَتْ إلَى بَعْضِهَا أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ، وَالتَّمَسُّكُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِكَوْنِهِمْ وَسَطًا وَالْوَسَطُ هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي يُرْتَضَى بِقَوْلِهِ قَالَ تَعَالَى {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: ٢٨] أَيْ أَعْدَلُهُمْ وَأَرْضَاهُمْ قَوْلًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ
فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ مَوْصُوفًا بِالْعَدَالَةِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مَوْصُوفًا بِهَا؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا كَانَ بَاطِلًا وَكَذِبًا وَالْكَاذِبُ الْمُبْطِلُ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ فَلَا يَكُونُ عَدْلًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُهُمْ وَسَطًا يُضَادُّ الْجَوْرَ أَيْ الْمَيْلَ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الْوَسَطُ فِي اللُّغَةِ مَنْ يُرْتَضَى بِقَوْلِهِ وَمُطْلَقُ الِارْتِضَاءِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْأَصْلِ مَرْدُودٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا أَنَّ الْمُخْطِئَ رُبَّمَا يُعْذَرُ بِسَبَبِ عَجْزِهِ وَيُؤْجَرُ عَلَى قَدْرِ طَلَبِهِ لِلْحَقِّ بِطَرِيقِهِ لَا أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَإِنْ قِيلَ: وَصْفُهُمْ بِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا زَيْدٌ عَالِمٌ يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِشَيْءٍ وَلَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِكُلِّ الْأَشْيَاءِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ مُحِقِّينَ فِي الْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ الْخَطَأَ إنْ كَانَ مَعْصِيَةً فَهُوَ مِنْ الصَّغَائِرِ لَا مِنْ الْكَبَائِرِ فَلَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ.
قُلْنَا: إنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِعَدَالَةِ أَحَدٍ إلَّا وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ يَكُونُ عَدْلًا حَقِيقَةً كَالْمُزَكِّي إذَا أَخْبَرَ بِعَدَالَةِ شَاهِدٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ظَاهِرًا وَهَاهُنَا قَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِعَدَالَتِهِمْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْكَذِبِ، وَهُوَ يُنَافِي الْعَدَالَةَ الْمُطْلَقَةَ الْحَقِيقَةِ. بِخِلَافِ شُهُودِ الْحَاكِمِ حَيْثُ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ جَوَازِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute