للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالنَّسْخُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ بِمِثْلِهِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِإِجْمَاعِ عَصْرِهِ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ أُولَئِكَ عَلَى خِلَافِهِ فَيَنْفَسِخُ بِهِ الْأَوَّلُ وَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْعَمَلِ عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي عَصْرَيْنِ أَوْ عَصْرٍ وَاحِدٍ أَعْنِي بِهِ فِي جَوَازِ النَّسْخِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ــ

[كشف الأسرار]

الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مَقْطُوعٌ بِهِ وَمُخَالِفُهُ كَافِرٌ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا الْفَرْعَ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَذَلِكَ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلُوهُ مُوجِبًا لِلْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ كَآيَةٍ مِنْ الْكِتَابِ قَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ فَإِنْكَارُهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ لَا مَحَالَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ إنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مِمَّا يَشْتَرِكُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ فِي مَعْرِفَتِهِ مِثْلُ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَرَكَعَاتِهَا وَفَرْضِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَزَمَانِهِمَا وَمِثْلُ تَحْرِيمِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا كَفَرَ مُنْكِرُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِإِنْكَارِهِ جَاحِدًا لِمَا هُوَ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ قَطْعًا فَصَارَ كَالْجَاحِدِ لِصِدْقِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْفَرِدُ الْخَاصَّةُ بِمَعْرِفَتِهِ كَتَحْرِيمِ تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتهَا وَخَالَتِهَا وَفَسَادِ الْحَجِّ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَتَوْرِيثِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ وَحَجْبِ بَنِي الْأُمِّ بِالْجَدِّ وَمَنْعِ تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ لَا يَكْفُرُ مُنْكِرُهُ وَلَكِنْ يُحْكَمُ بِضَلَالِهِ وَخَطَئِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْمُنْكِرَ مُتَأَوِّلٌ حَيْثُ جَعَلَ الْمُرَادَ مِنْ الْأُمَّةِ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَهُمْ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالتَّأْوِيلُ مَانِعٌ مِنْ الْإِكْفَارِ كَتَأْوِيلِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ النُّصُوصَ الْقَاطِعَةَ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ تَعَجُّبَ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ فَإِنَّهُمْ مَا حَكَمُوا بِكُفْرِ مُنْكِرِ كُلِّ إجْمَاعٍ وَلَمْ يَجْعَلُوا الْفَرْعَ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَلَمْ يَغْفُلُوا عَنْهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ فَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ فِي الْأَصْلِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَيْ يَكْفُرُ جَاحِدُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْإِجْمَاعُ الدَّاخِلُ تَحْتَ أَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ بِلَا شُبْهَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَيْ يَكْفُرُ جَاحِدُ الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ لِاشْتِمَالِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعِتْرَةِ الرَّسُولِ وَيُضَلَّلُ جَاحِدُ إجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورِ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَإِذَا صَارَ الْإِجْمَاعُ مُجْتَهَدًا أَيْ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَانَ كَالصَّحِيحِ مِنْ الْآحَادِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا بَلَغَ إلَيْنَا بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَوْلُهُ (وَالنَّسْخُ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي الْإِجْمَاعِ جَائِزٌ بِمِثْلِهِ حَتَّى جَازَ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ بِالْقَطْعِيِّ وَلَا يَجُوزُ بِالظَّنِّيِّ وَجَازَ نَسْخُ الظَّنِّيِّ بِالظَّنِّيِّ وَالْقَطْعِيِّ جَمِيعًا فَلَوْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى حُكْمٍ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ مِثْلَهُ، وَلَوْ أَجْمَعَ الْقَرْنُ الثَّانِي عَلَى خِلَافِهِمْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ دُونَهُ وَلَوْ أَجْمَعَ الْقَرْنُ الثَّانِي عَلَى حُكْمٍ، ثُمَّ أَجْمَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى خِلَافِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَيَصْلُحُ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنَّمَا جَازَ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَنْتَهِيَ مُدَّةُ حُكْمٍ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْلَ الِاجْتِهَادِ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ كَمَا إذَا وَرَدَ نَصٌّ بِخِلَافِ النَّصِّ الْأَوَّلِ ظَهَرَ بِهِ أَنَّ مُدَّةَ ذَلِكَ الْحُكْمِ قَدْ انْتَهَتْ وَلَا يُقَالُ زَمَانُ الْوَحْيِ قَدْ انْقَطَعَ بِوَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا يَجُوزُ بَعْدَهُ نَسْخُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: زَمَانُ نَسْخِ مَا ثَبَتَ بِالْوَحْيِ قَدْ انْقَطَعَ بِوَفَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى نُزُولِ الْوَحْيِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ بَعْدُ فَأَمَّا زَمَانُ نَسْخِ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ فَغَيْرُ مُنْقَطِعٍ لِبَقَاءِ زَمَانِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَحُدُوثِهِ، وَهَذَا مُخْتَارُ الشَّيْخِ فَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>