للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أشد العقاب، قلَّدك أمر هذه الأمَّة، فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير استرعاكهم الله، وائتمنك عليهم، وابتلاك بهم، وولاك أمرهم، وليس يثبت البنيان إذا أسس على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد فيهدّه على من بناه» (١).

على أن هناك من الفقهاء من رفض تقلد منصب القضاء، ليس طعناً في شرعية الحكم العباسي، ولكن إحساساً بخطورة هذا المنصب وإشفاقاً من مسؤولياته وعواقبه في الآخرة؛ فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين» (٢)، ولعل أشهر من رفض منصب القضاء في العصر العباسي، الإمام أبو حنيفة النعمان؛ حيث أشخصه أبو جعفر من الكوفة إلى بغداد، وأراد أن يوليه قضاءها فأبى، فحلف عليه ليفعلن، فحلف أبو حنيفة ألا يفعل، فحلف أبو جعفر مرة ثانية عليه ليفعلن فحلف أبو حنيفة ألا يفعل، فقال الربيع: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف! قال: أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني، فأمر أبو جعفر به إلى الحبس، ثم أحضره مرة أخرى وناقشه في رفضه للقضاء، فقال أبو حنيفة له: والله ما أنا بمأمون الرضى فكيف أكون مأمون الغضب، ولو اتجه الحكم عليك ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو أن تلي الحكم لاخترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك (٣).

وإذا كان القضاة في الدولة العباسية قد أدوا واجبهم في ترشيد قرارات الخلفاء والعمل على تطبيق الشريعة، والإسهام في توجيه الخلفاء وتبصيرهم بواجباتهم نحو الرعية، من منطلق ما يمليه عليه منصب القضاء من أعباء ومسؤوليات، فإن الفقهاء والعلماء من خارج دائرة وظائف الدولة قد شاركوهم هذه المسؤولية، وإن كانوا أكثر منهم صراحة وأعظم جرأة في نقد الخلفاء وبيان أخطائهم، وتجاوزاتهم فيما يمس حقوق الرعية ومصالحها، ولم يخش العلماء من إعلان كلمة الحق والجهر بها في وجه الخلفاء العباسيين حتى في بداية الدولة، حين كان السيف هو


(١) العصر العباسي الأول للدكتور فهمي عبد الجليل: ص ٢٥٥ - ٢٥٦.
(٢) سنن أبي داود: ٣/ ٢٩٨ كتاب الأقضية، باب: في طلب القضاء، رقم (٣١٠٠) عن أبي هريرة. سنن ابن ماجه: ٢/ ٧٧٤ كتاب الأحكام، باب: ذكر القضاة (٢٢٩٩) عن أبي هريرة. سنن الترمذي: ٣/ ٦١٤، كتاب الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي رقم (١٢٤٧) عن أبي هريرة.
(٣) تاريخ بغداد: ١٣/ ٣٢٨ - ٣٢٩. مرآة الجنان لليافعي: ١/ ٣١١. الوافي بالوفيات: ٢٧/ ٩٠.

<<  <   >  >>