للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وحتى ابن تيميَّة نفسه قال في تفسير قوله - عز وجل -: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} البقرة/٣٠: «إنَّ هذا يعم آدمَ وبنيه، ولكن الاسم متناولٌ لآدم عيناً، وأنَّه كقوله - عز وجل -: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} التين/٤» (١). وفسَّرَ حديثَ: «السلطان ظل الله» (٢) بأنَّ السلطان عبد الله، مخلوق مُفْتَقَرٌ إليه، لا يُستغنى عنه طرفة عين، وفيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معاني السؤدد والصمدية التي بها قوام الخلق، وما يشبه أن يكون ظلَّ الله في الأرض، وهو أقوى الأسباب التي بها يصلح أمور خلقه وعباده. كما أنَّه وصف الولاة بأنهم نوَّاب الله على عباده (٣) وهذا الكلام منه لا يختلف عما قاله الشيخ محي الدين بن عربي ومن معه! فما يصلح مُبَرِّراً لِوَصْف الولاة بأنَّهم نوَّابُ الله، يَصْلُحُ مبرِّراً لإطلاق كلمة (خليفة الله) على الإنسان.

وإذا أردتُ اختصار هذا الرأي فيمكنني أن أقول: إنَّ الله عز وجل غيبٌ من حيث إنَّنا لا نراه في هذه الحياة الدنيا، والإنسان أو الحاكم خليفته في عالم الشهادة - بالنسبة إلى أفراد جنسه من البشر - في تطبيق أحكامه حسب المحيط أو المجال الذي هو مُسلَّطٌ عليه، لأنَّ الإنسان العاديَّ ضعيف، ولا يمكنه فهم حاكمية الله، دون أن يجد ممثِّلاً لها من البشر، فَمَنْ فَهِمَ معنى الخلافة، كان نموذجاً لتطبيق أحكام الله عز وجل، طواعية وعن رضى، فهو خليفة للجيل الذي قبله من حيث الزمن، لأنه أتى بعد مَنْ سبقه، ولكنَّه بالنسبة إلى الجيل الذي سيأتي بعده سيكون المثال والأنموذج لتطبيق شرع الله. وهذه الفرصة التي مَلَّكها اللهُ لعباده على التوالي - والتي هي نعمةُ الحياة وشرفُ الاستخلاف على ظهر الأرض - يأتي عَبْرَها التكليفُ أو الأمانةُ التي عرضها اللهُ على السموات والأرض فأَبَيْنَ أن يحملْنها وحملها الإنسان، وقد ملَّكنا الله في سبيل تحقيقها، أخطرَ الصفات من السَّمع والبصر والعقل والإرادة والقدرة، والتي هي موجودة في ذات الله جل جلاله في أحسن صورها وأوسعها، وهو الأصل فيها، فكأنها إعارةٌ لتلك القدرات على مستوى مُبسَّطٍ.


(١) مجموع فتاوى ابن تيمية: ٣٥/ ٤٢.
(٢) سبق تخريجه في ص (٥٩) حاشية (٤).
(٣) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص ٢٢. الخلافة والملك لابن تيمية: ص ٥٤.

<<  <   >  >>