ومظاهر كثيرة في الحياة، قد انتقلت من طور بدائيّ بدويّ إلى طور بدائيّ مدنيّ، ولا تتّفق مع ما وصفها القرآن بنعوت وأسماء لا تليق بقرية صغيرة، وحياة بدويّة، فقد سمّاها «أمّ القرى» في قوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: ٧] . وقوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: ١- ٣] . وقوله: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «١»[البلد: ١- ٢] .
والحقّ أنّ مكّة قد انتقلت في منتصف القرن الخامس الميلاديّ، من طور البداوة إلى طور الحضارة، وإن كانت حضارة بالمعنى المحدود، وخضعت لنظام يقوم على اتفاق تطوّعيّ وتفاهم جماعيّ وتوزّع للمسؤوليات والمهام، وكان ذلك على يد قصيّ بن كلاب الجدّ الخامس للرسول.
وكان عمران مكّة بطبيعة الحال محصورا في نطاق ضيّق، وكانت مكّة بين الأخشبين، وهو جبل «أبي قبيس» المشرف على الصّفا، والآخر الجبّل الذي يقال له «الأحمر» ، وكان يسمّى في الجاهليّة ب «الأعرف» ، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان.
إلّا أنّ وجود البيت في هذا الوادي، وما كان يتمتّع به جيرانه وسدنته بصفة خاصّة، وسكان الوادي بصفة عامّة، من شرف ومكانة وأمن، كان مغريا لكثير من القبائل العربيّة، وخصوصا المجاورة، للانتقال إلى جوار
(١) ولا ينافي ذلك قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] ؛ فكثيرا ما يطلق لفظ القرية على البلد؛ قال ابن كثير في تفسيره هذه الآية: «والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أيّ البلدتين كان» ، تفسير ابن كثير: ج ٦، ص ٢٢٥، طبع دار الأندلس.