للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حيث لا تشعر، فلمّا رجعت إلى الرّحل فقدت العقد فذهبت تبحث عنه وقد أخذ الناس في الرحيل، فجاء القوم الذين كانوا يرحّلون لها البعير، فأخذوا الهودج، وهم يظنّون أنّها فيه، وكانت فتاة صغيرة السنّ، خفيفة اللحم، فلم ينتبهوا لخفّتها، ولم يشكّوا أنّها فيه، ورجعت عائشة إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب، وقد انطلق الناس، فتلففت بجلبابها، واضطجعت في مكانها.

وبينما هي كذلك إذ مرّ بها صفوان بن المعطّل السّلمي، وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته، فلمّا رآها استرجع، وقال: ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرّب البعير واستأخر، فركبت وأخذ برأس البعير، وانطلق سريعا يطلب الناس فأدركهم، وقد نزلوا، ولحقت بالركب، فلم يرع الناس شيء، فكان مما ألفوه في حياة البادية ومسير القوافل، وكان حفظ الذمار والتعفف عن مثل هذه الخسائس، من الأعراف العربية التي كانوا يحافظون عليها في الجاهليّة والإسلام «١» ، فيقول الشاعر الجاهليّ: [من الكامل]

وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها «٢»


(١) ومن أمثلته ما حكته أم سلمة، وقد حال قومها بينها وبين زوجها أبي سلمة، فلم يدعوها تهاجر معه إلى المدينة، فكانت تخرج كل غداة إلى الأبطح فما تزال تبكي حتى تمسي، سنة أو قريبا منها، حتى رقّوا لها وقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، فارتحلت بعيرها وما معها أحد، فلقيها عثمان بن طلحة الداري فرثى لها، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معها إلى المدينة، قالت أم سلمة: والله ما صحبت رجلا من العرب قطّ أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجر.. إلى أن قالت: فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة. (سيرة ابن كثير، ج ٢، ص ٢١٥- ٢١٧) وهذا قبل أن يسلم عثمان بن طلحة، فكان صفوان بن المعطّل السّلمي أحقّ بهذا الخلق والنزاهة، فقد أسلم قديما وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٢) ديوان الحماسة.

<<  <   >  >>