اعتاده أكثر المؤلّفين المتوسّطين والمتأخّرين وقليل من المؤلّفين المتقدّمين، والذي كان مثار كثير من التساؤلات التي برّأ الله السيرة الكريمة منها، وأغنى المسلمين عنها، قد نالته يد التنقيح والتحقيق من غير تقليد للاتجاهات العصرية، وخضوع لكتابات المستشرقين وأقوال المشكّكين، متمشيا مع المقرّرات الدينية التي تفهم في ضوئها الكتب السّماوية وسير الأنبياء، والمعجزات، والأخبار الغيبية، قائما على مبدأ أنه سيرة نبيّ من الأنبياء، مبعوث من الله، مؤيّد منه، لا سيرة عظيم من العظماء، أو زعيم من الزعماء، يسوغ أن يقدّم إلى كل مثقف منصف من المسلمين وغير المسلمين من غير تحفّظ أو استثناء، أو حاجة إلى تأويل، يعتمد فيه المؤلّف على الحوادث والوقائع، ومادة السيرة، ويدعها تنطق بلسانها، وتشقّ الطريق بنفسها إلى القلوب والعقول، أكثر مما يعتمد على فلسفته للحوادث وتعليله للأخبار، ومقدماته الطويلة العريضة، فالسيرة النبوية غنية بجمالها وروعتها وسحرها على النفوس والعقول، ووقعها منها موقع القبول، من شفاعة شافع وتدليل حكيم، وبراعة أديب، وجلّ ما يحتاج إليه المؤلّف، هو جمال العرض، وحسن الترتيب، وجودة التلخيص.
ثم يتجلّى فيه العقل والعاطفة جوارا بجوار، فلا يكون فيه البحث العلمي والنقد التحليلي على حساب العاطفة والحب والإيمان، اللذان لا بدّ منهما في تذوّق السيرة والاستفادة منها وفهم قضاياها وأحكامها وحوادثها، فإنه إذا تجرّد الكتاب من العاطفة والحب والإيمان، كان خشبيا مصنوعا لا حياة فيه، وكذلك يجب ألا يكون العنصر العاطفي العقيدي على حساب المتطلبات العقلية السليمة التي نماها هذا العصر بصورة خاصة، وعلى حساب المنطق السليم الذي لم يتجرد منه عصر من العصور، فيكون كتاب عقيدة وتقليد فحسب، لا يطيق قراءته ولا يسيغ ما جاء فيه إلا الأقوياء في الإيمان،