ومنهم من يريد أن يصوّر أحد العظماء فيصوّر نفسه، ويريد أن ينظر إليه نظرة مجردة، فيبدأ ينظر إليه من خلال ميوله وتجاربه ووجهة نظره، ويسلّط عليه مقاييسه الخاصة.
إنّ من درس علم النفس والأخلاق، وعني بدراسة الشخصيات المعاصرة، وعاش معها طويلا عرف أنّ النزول في أعماق نفس إنسان والإحاطة بافاقها، وتصويرها تصويرا دقيقا شاملا من أصعب أنواع المعرفة وأساليب البيان وأدقّها، وأنه لا يحسن ذلك بعض الإحسان، ولا يقدر عليه بعض القدرة إلا من عرف شيئا كثيرا من خوالج النفس وخواطرها، وآمالها وآلامها، وأحزانها وأشواقها والتهاب الروح، ولوعة القلب، وقد رأى كيف يبيت هذا الإنسان ليله ويقضي نهاره، وكيف يعاشر أهله ويعامل أصحابه، قد رآه في السّلم والحرب، والرّضا والغضب، وفي العسر واليسر، والضّعف والقوّة، ومن أحوال النفس الإنسانية ومشاعرها وأحاسيسها، ومن مظاهر الجمال والكمال ما لم توضع له ألفاظ بعد، ولا تفي به ثروة لغوية مهما اتّسعت ودقّت.
والسّيرة النبويّة المحمّدية تتميّز من بين سير أفراد البشر- وفيهم الأنبياء وغير الأنبياء- بدقّتها وشمولها، واستيعابها لدقائق الحياة وتفاصيلها وملامحها وقسماتها، وذلك بفضل علم الحديث، الذي لا يوجد له نظير، لا في تاريخ الأنبياء ولا في تاريخ العظماء، وكتب السّير والشمائل، وما جمع وحفظ من الأدعية «١» والأذكار النبوية، ومناجاته صلى الله عليه وسلم لربّه آناء الليل
(١) ليراجع مقال المؤلّف في صلة الأدعية النبوية بالسيرة؛ وقيمتها وأهميتها في دراستها، وأنها مرآة تجلت فيها خصائص النبوة وأسرارها وصلتها بالله وبالخلق، والمعرفة الدقيقة لحقائق-