يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلا من النظّارة، فقال بشر: اضربوا عما قال صفحا واطووا عنه كشحا. ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وكان أول ذلك الكلام:
خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرا، وأشرف حسبا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطاء، وأجلب لكلّ عين وغرّة، من لفظ شريف ومعنى بديع. وأعلم ان ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول، بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة. ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا، وخفيفا على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه. وإياك والتوعّر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. ومن أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإن حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما. فكن في ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، أما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت. والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتّضع بأن يكون من معاني العامة.
وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المال. وكذلك اللفظ العامي والخاصيّ. فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، إلى أن تفعم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الاكفاء، فأنت البليغ التام.
قال بشر: فلما قرئت على إبراهيم قال لي: أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء الفتيان.