للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال أبو عثمان «١» : أما أنا فلم أر قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتّاب، فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا. وإذا سمعتموني أذكر العوامّ فإني لست أعني الفلاحين والحشوة «٢» والصناع والباعة، ولست أعني أيضا الأكراد في الجبال. وسكان الجزائر في البحار، ولست أعني من الأمم مثل الببر والطيلسان «٣» ، ومثل موقان وجيلان «٤» ، ومثل الزنج وأشباه الزنج. وإنما الأمم المذكورون من جميع الناس أربع: العرب، وفارس، والهند، والروم. والباقون همج وأشباه الهمج. وأما العوام من أهل ملتنا ودعوتنا، ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا، فالطبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم ولم يبلغوا منزلة الخاصة منا. على أن الخاصة تتفاضل في طبقات أيضا.

ثم رجع بنا القول إلى بقية كلام بشر بن المعتمر، وإلى ما ذكر من الأقسام.

قال بشر: فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسمح لك عند أول نظرك وفي أول تكلّفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يعبك بترك ذلك أحد. فإن أنت تكلفتهما ولم تكن حاذقا مطبوعا ولا محكما لشأنك، بصيرا بما عليك وما لك، عابك من أنت أقل عيبا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك.

فإن ابتليت بأن تتكلّف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعاصى عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك وسواد ليتلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة

<<  <  ج: ص:  >  >>