للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألا ترى أن الحارث بن حدّان، حين أمر بالكلام عند مقتل يزيد بن المهلب، قال: «أيها الناس، اتقوا الفتنة، فإنها تقبل بشبهة، وتدبر ببيان، وإن المؤمن لا يلسع من جحر تين» ، فضرب بكلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المثل، ثم قال: «اتقوا عصبا تأتيكم من الشام، كأنها دلاء قد انقطع وذمها» .

وقال ابن الأشعث لأصحابه، وهو على المنبر: «قد علمنا إن كنا نعلم، وفهمنا إن كنا نفهم، أن المؤمن لا يلسع من جحر مرتين، وقد والله لسعت بكم من جحر ثلاث مرات، وأنا أستغفر الله من كل ما خالف الإيمان، واعتصم به من كل ما قارب الكفر» .

وأنا ذاكر بعد هذا فنا آخر من كلامه صلّى الله عليه وسلّم، وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى: قل يا محمد: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ

. فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعيب، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالتوفيق. وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الأفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته.

لم تسقط له كلمة، ولا زلت به قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذّ الخطب الطوال بالكلام القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج «١» إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز «٢» ، ولا يبطىء ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر. ثم لم يسمع الناس

<<  <  ج: ص:  >  >>