في المنازل والرأي مختلفون، والعرب بشرّ تلك المنازل، أهل الوبر وأهل المدر، تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاغة عيشها «١» : ميتهم في النار وحيهم أعمى. مع ما لا يحصى من المرغوب عنه، والمزهود فيه. فلما أراد الله أن ينشر فيهم رحمته، ويسبغ عليهم نعمته، بعث إليهم رسولا منهم عزيزا عليه ما عنتوا، حريصا عليهم، بالمؤمنين رؤوفا رحيما، فلم يمنعهم ذلك من أن جرحوه في جسمه، ولقبوه في اسمه، ومعه كتاب من الله ناطق، وبرهان من الله صادق، لا يرحل إلا بأمره، ولا ينزل إلا بإذنه. واضطروه إلى بطن غار، فلما أمر بالعزم أسفر لأمر الله لونه، فأفلج الله حجته، وأعلى كلمته وأظهر دعوته، ففارق الدنيا نقيا تقيا، مباركا مرضيا. صلّى الله عليه وسلّم.
ثم قام بعده أبو بكر رحمه الله، فسلك سنته، وأخذ بسبيله، وأرتدّت العرب، فلم يقبل منهم بعد رسول الله إلا الذي كان قابلا منهم، فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران من شعلها، ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل، فلم يبرح يفصل أوصالهم، ويسقي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الذي خرجوا عنه، وقررهم بالذي نفروا منه. وقد كان أصاب من مال الله بكرا يرتوي عليه، وحبشية ترضع ولدا له، فرأى ذلك غصة عند موته في حلقه، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وبرىء إليهم منه، وفارق الدنيا نقيا تقيا، على منهاج صاحبه، رحمه الله.
ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رحمه الله، فمصّر الأمصار، وخلط الشدة باللين، فحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، وأعدّ للأمور أقرانها، وللحرب آلتها، فلما أصابه فتى المغيرة بن شعبة، أمر ابن عباس أن يسأل الناس هل يثبتون قاتله، فلما قيل له: فتى المغيرة، استهل بحمد الله ألا يكون اصابه ذو حق في الفيء فيستحل دمه بما استحل من حقه. وقد كان أصاب من مال الله بضعا وثمانين ألفا، فكسر رباعه، وكره بها كفالة أهله