قالوا: والخطابة شيء في جميع الأمم، وبكلّ الأجيال «١» إليه أعظم الحاجة، حتى أن الزّنج مع الغثارة «٢» ، ومع فرط الغباوة، ومع كلال الحد وغلظ الحس وفساد المزاج، لتطيل الخطب، وتفوق في ذلك جميع العجم، وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ، وألفاظها أخطل وأجهل «٣» . وقد علمنا أن أخطب الناس الفرس وأخطب الفرس أهل فارس، وأعذبهم كلاما وأسهلهم مخرجا وأحسنهم دلّا «٤» وأشدهم فيه تحكما، أهل مرو، وأفصحهم بالفارسية الدريّة، وباللغة الفهلوية، أهل قصبة الأهواز، فأما نغمة الهرابذة «٥» ، ولغة الموابدة «٦» ، فلصاحب تفسير الزمزمة «٧» .
قالوا: ومن أحبّ أن يبلغ في صناعة البلاغة، ويعرف الغريب، ويتبحر في اللغة، فليقرأ كتاب كاروند. ومن احتاج إلى العقل والأدب، والعلم بالمراتب والعبر والمثلات «٨» ، والألفاظ الكريمة، والمعاني الشريفة، فلينظر في سير الملوك. فهذه الفرس ورسائلها وخطبها والفاظها، ومعانيها. وهذه يونان ورسائلها وخطبها، وعللها وحكمها، وهذه كتبها في المنطق التي قد جعلتها الحكماء بها تعرف السقم من الصحة، والخطأ من الصواب، وهذه كتب الهند في حكمها وأسرارها، وسيرها وعللها، فمن قرأ هذه الكتب، وعرف نور تلك العقول، وغرائب تلك الحكم، عرف أين البيان والبلاغة، وأين تكاملت تلك الصناعة. فكيف سقط على جميع الأمم من المعروفين بتدقيق المعاني، وتخيّر الألفاظ، وتمييز الأمور، أن يشيروا بالقنا والعصي، والقضبان والقسي.