رأس اليمانية في المقصورة يوم الجمعة ثم قال: قل لهم: يقول لكم أمير المؤمنين: قد عرفتم ما كان من إحساني إليه، وحسن بلائي عنده، وقديم نعمتي عليه، والذي حاول من الفتنة، ورام من البغي، وأراد من شق العصا ومعاونة الأعداء، وإراقة الدماء، وأنه قد استحق بهذا من فعله أليم العقاب، وعظيم العذاب. وقد رأى أمير المؤمنين إتمام بلائه الجميل لديه، ورب نعمائه السابقة عنده، لما يتعرفه أمير المؤمنين من حسن عائدة الله عليه، وما يؤمله من الخير العاجل والآجل، عند العفو عمن ظلم، والصفح عمن أساء. وقد وهب أمير المؤمنين مسيئكم لمحسنكم، وغادركم لوفيكم.
وقال سهل بن هارون يوما، وهو عند المأمون: من أصناف العلم مالا ينبغي للمسلمين أن يرغبوا فيه، وقد يرغب عن بعض العلم كما يرغب عن بعض الحلال! قال المأمون: قد يسمى بعض الشيء علما وليس بعلم، فإن كنت هذا أردت فوجهه الذي ذكرناه. ولو قلت: العلم لا يدرك غوره، ولا يسبر قعره، ولا تبلغ غايته، ولا يستقصى أصنافه، ولا يضبط آخره، فالأمر على ما قلت. فإذا فعلتما ذلك كان عدلا، وقولا صدقا. وقد قال بعض العلماء: أقصد من أصناف العلم إلى ما هو أشهى إلى نفسك وأخف على قلبك، فإن نفاذك فيه على حسب شهوتك له، وسهولته عليك. وقال أيضا بعض الحكماء: لست أطلب العلم طمعا في بلوغ غايته، والوقوف على نهايته. ولكن التماس مالا يسع جهله، ولا يحسن بالعاقل إغفاله. وقال آخرون: علم الملوك النسب والخبر وجمل الفقه، وعلم التجار الحساب والكتاب، وعلم أصحاب الحرب درس كتب المغازي وكتب السير.
فأما أن تسمّي الشيء علما وتنهى عنه من غير أن يكون يشغل عما هو أنفع منه، بل تنهي نهيا جزما، وتأمر أمرا حتما! والعلم بصر، وخلافه عمى، والإستبانة للشر ناهية عنه، والإستبانة للخير آمرة به.
ولما قرأ المأمون كتبي في الإمامة فوجدها على ما أمر به، وصرت إليه