وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ، والمشيرة بغير اليد. وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وجامد ونام، ومقيم وظاعن، وزائد وناقص. فالدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة، والعجماء معربة من جهة البرهان. ولذلك قال الأول:
«سل الأرض فقل: من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟
فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا» .
وقال بعض الخطباء:«أشهد أن السموات والأرض آيات وآلات وشواهد قائمات، كل يؤدي عنك الحجة ويشهد لك بالربوبية موسومة بآثار قدرتك، ومعالم تدبيرك، التي تجليت بها لخلقك، فأوصلت إلى القلوب من معرفتك ما أنسها من وحشة الفكر، ورجم الظنون. فهي على اعترافها لك، وافتقارها إليك شاهدة بأنك لا تحيط بك الصفات ولا تحدك الأوهام، وإن حظ الفكر فيك، الاعتراف لك» .
وقال خطيب من الخطباء، حين قام على سرير الاسكندر وهو ميت:
«الاسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس» .
ومتى دل الشيء على معنى فقد أخبر عنه وإن كان صامتا، وأشار إليه وإن كان ساكتا. وهذا القول شائع في جميع اللغات، ومتفق عليه مع إفراط الاختلافات.
وقال عنترة بن شداد العبسي جعل نعيب الغراب خبرا للزاجر:
الحرق: الأسود. شبه لحييه بالجلمين، لأن الغراب يخبر بالفرقة والغربة ويقطع كما يقطع الجلمان. وأنشدني أبو الرديني العكلي، في تنسم الذئب الريح واستنشائه واسترواحه:
يستخبر الريح إذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصفا الموقع